عليه أبو هريرة بقوله: كيف تكون آخر ساعة فى يوم الجمعة وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يصادفها عبد مسلم وهو يُصَلِّى" وتلك الساعة لا يُصلَّى فيها؟ فيجيبه عبد الله بن سلام بقوله: ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن جلس مجلساً ينتظر الصلاة فهو فى صلاة حتى يُصلِّى"؟... الحديث.
فمثل هذه المراجعة التى كانت بين أبى هريرة وكعب تارة، وبينه وبين ابن سلام تارة أخرى، تدلنا على أن الصحابة كانوا لا يقبلون كل ما يقال لهم، بل كانوا يتحرون الصواب ما استطاعوا، ويردُّون على أهل الكتاب أقوالهم إن كانت لا توافق وجه الصواب.
ومهما يكن من شئ فإن الصحابة - رضى الله عنهم - لم يخرجوا عن دائرة الجواز التى حدَّها لهم رسول الله ﷺ وعما فهموه من الإباحة فى قوله عليه السلام: "بلِّغوا عنى ولو آية، وحَدِّثوا عن بنى إسرائيل ولا حَرَج، ومَن كذب علىَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار".
كما أنهم لم يخالفوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تُصدِّقوا أهل الكتاب ولا تُكَذِّبوهم، وقولوا: آمنا بالله وما أُنزل إلينا... الآية" ولا تعارض بين هذين الحديثين، لأن الأول أباح لهم أن يُحَدِّثوا عما وقع لبنى إسرائيل من الأعاجيب، لما فيها من العبرة والعظة، وهذا بشرط أن يعلموا أنه ليس مكذوباً، لأن الرسول ﷺ لا يعقل أن يبيح لهم رواية المكذوب.
قال الحافظ ابن حجر فى الفتح عند شرحه لهذا الحديث: "وقال الشافعى: من المعلوم أن النبى ﷺ لا يجيز التحدث بالكذب، فالمعنى: حَدِّثوا عن بنى إسرائيل بما لا تعلمون كذبه، وأما ما تجوِّزونه فلا حَرَج عليكم فى التحدث به عنهم. وهو نظير قوله: "إذا حدَّثكم أهل الكتاب فلا تُصَدِّقوهم ولا تُكَذِّبوهم"، ولم يرد الإذن ولا المنع من التحدث بما يقطع بصدقه".
وأما الحديث الثانى، فُيراد منه التوقف فيما يُحدِّث به أهل الكتاب، مما يكون محتملاً للصدق والكذب، لأنه ربما كان صدقاً فيُكَذِّبونه، أو كذباً فيُصَدِّقونه، فيقعون بذلك فى الحَرَج، أما ما خالف شرعنا فنحن فى حِلٍّ من تكذيبه، وأما وافقه فنحن فى حِلٍّ من تصديقه.