قال الحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث: "لا تُصدِّقوا أهل الكتاب ولا تُكَذِّبوهم": "أي: إذا كان ما يخبرونكم به محتملاً، لئلا يكون فى نفس الأمر صدقاً فتكذِّبوه، أو كذباً فتصدِّقوه، فتقعوا فى الحَرَج، ولم يرد النهى عن تكذيبهم فيما ورد شرعنا بخلافه، ولا عن تصديقهم فيما ورد شرعنا بوفاقه. نبَّه على ذلك الشافعى رحمه الله"...
ثم قال: "وعلى هذا نحمل ما جاء عن السَلَف من ذلك".
وأما ما أخرجه الإمام أحمد، وابن أبى شيبة، والبزار، من حديث جابر ابن عبد الله: "أن عمر بن الخطاب أتى النبى ﷺ بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب، فقرأه عليه فغضب فقال: "أمتهوكون فيها يا بن الخطاب؟ والذى نفسى بيده، لقد جئتكم بها بيضاء نقية. لا تسألوهم عن شئ فيخبروكم بحق فَتُكَذِّبوا به، أو بباطل فَتُصَدِّقوا به، والذى نفسى بيده، لو أنَّ موسى ﷺ كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعنى" فلا يعارض ما قلناه من الجواز، لأن النهى الوارد هنا كان فى مبدأ الإسلام وقبل استقرار الأحكام. والإباحة بعد أن عُرِفت الأحكام واستقرَّت، وذهب خوف الاختلاط.. قال الحافظ ابن حجر فى الفتح: "وكأن النهى وقع قبل استقرار الأحكام الإسلامية، والقواعد الدينية خشية الفتنة، فلما زال المحذور وقع الإذن فى ذلك، لما فى سماع الأخبار التى كانت فى زمانهم من الاعتبار".
ويمكن أن ندفع ما يُتوهم من التعارض بما نقله ابن بطال عن المهلب أنه قال: "هذا النهى إنما هو فى سؤالهم عما لا نص فيه، لأن شرعنا مكتف بنفسه، فإذا لم يوجد فيه نص ففى النظر والاستدلال غنىً عن سؤالهم، ولا يدخل فى النهى سؤالهم عن الأخبار المصدِّقة لشرعنا، والأخبار عن الأمم السالفة".
ومن هذا كله يتبين لنا: أنه لا تعارض بين هذه الأحاديث الثلاثة، كما يتبين لنا المقدار الذى أباحه الشارع من الرواية عن أهل الكتاب.
ولسنا بعد ما فهمناه من هذه الأحاديث، وما عرفناه من حرص الصحابة، على امتثال ما أمرهم به الرسول صلى الله عليه وسلم، نستطيع أن نقر الأستاذ "جولدزيهر" والأستاذ أحمد أمين على هذا الاتهام الذى وجَّهاه إلى ابن عباس خاصة، وإلى الصحابة عامة، من رجوعهم إلى أهل الكتاب فى كل شئ، وقبولهم لما نهى الرسول عن أخذه من أهل الكتاب، وقد ذكرنا كلامهما ورددنا عليه عند الكلام عن ابن عباس، كما ذكرنا الأثر الذى