درجة جعلتهم لا يردُّون قولاً. ولا يحجمون عن أن يلصقوا بالقرآن كل ما يُروَى لهم وإن كان لا يتصوره العقل!!. واستمر هذا الشغف بالإسرائيليات، والولع بنقل هذه الأخبار التى أصبح الكثير منها نوعاً من الخرافة إلى أن جاء دور التدوين للتفسير، فَوُجِد من المفسِّرين مَنْ حشوا كتبهم بهذا القصص الإسرائيلى، الذى كاد يصد الناس عن النظر فيها والركون إليها.
* *
* مقالة ابن خلدون فى الإسرائيليات:
ونرى بعد هذا أن نذكر عبارة ابن خلدون فى مقدمته، ليتبين لنا أسباب الاستكثار من هذه المرويات الإسرائيلية، وكيف تسرَّبت إلى المسلمين، فإنه خير مَنْ كتب فى هذا الموضوع، وإليك نص عبارته:
قال رحمه الله: "... وقد جمع المتقدمون فى ذلك - يعنى التفسير النقلى - وأوعوا إلا أن كتبهم ومنقولاتهم تشتمل على الغث والسمين، والمقبول والمردود. والسبب فى ذلك أن العرب لم يكونوا أهل كتاب ولا علم. وإنما غلبت عليهم البداوة والأُميَّة، وإذا تشوقوا إلى معرفة شىء مما تتشوق إليه النفوس البَشرية فى أسباب المكونات، وبدء الخليقة، وأسرار الوجود فإنما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم، ويستفيدونه منهم، وهم أهل التوراة من اليهود ومَنْ تبع دينهم من النصارى. وأهل التوراة الذين بين العرب يومئذ بادية مثلهم، ولا يعرفون من ذلك إلا ما تعرفه العامة من أهل الكتاب، ومعظمهم من "حِمير" الذين أخذوا بدين اليهودية، فلما أسلموا بقوا على ما كان عندهم مما لا تعلق له بالأحكام الشرعية التى يحتاطون لها، مثل أخبار بدء الخليقة، وما يرجع إلى الحدثان والملاحم، وأمثال ذلك وهؤلاء مثل: كعب الأحبار، ووهب بن منبه، وعبد الله بن سلام، وأمثالهم، فامتلأت التفاسير من المنقولات عنهم، وفى أمثال هذه الأغراض أخبار موقوفة عليهم، وليست مما يُرجع إلى الأحكام فيتُحرَّى فيها الصحة التى يجب بها العمل، وتساهل المفسِّرون فى مثل ذلك، وملأوا الكتب بهذه المنقولات، وأصلها - كما قلنا - عن أهل التوراة الذين يسكنون البادية ولا تحقيق عندهم بمعرفة ما ينقلونه من ذلك، إلا أنهم بَعُد صيتهم، وعظمت أقدارهم، لما كانوا عليه من المقامات فى الدين والمِلَّة، فتلقيت بالقبول من يومئذ... "
ومن هذا يتضح لنا أن ابن خلدون أرجع الأمر إلى اعتبارات اجتماعية وأخرى دينية، فعد من الاعتبارات الاجتماعية غلبة البداوة والأُميِّة على العرب وتشوقهم لمعرفة ما تتشوَّق إليه النفوس البَشرية، من أسباب المكونات وبدء الخليقة وأسرار الوجود، وهم إنما يسألون فى ذلك أهل الكتاب قبلهم.