الله، بصيراً بالقرآن، عارفاً بالمعانى، فقيهاً فى أحكام القرآن، عالماً بالسنن وطرقها، وصحيحها وسقيمها، وناسخها ومنسوخها، عارفاً بأقوال الصحابة والتابعين ومَنْ بعدهم مِنَ المخالفين فى الأحكام، ومسائل الحلال والحرام، عارفاً بأيام الناس وأخبارهم، هذا هو ابن جرير فى نظر الخطيب البغدادى وهى شهادة عالِم خبير بأحوال الرجال. وذُكِرَ أن أبا العباس بن سريج كان يقول: محمد بن جرير فقيه عالِم. وهذه الشهادة جد صادقة، فإن الرجل برع فى علوم كثيرة، منها: علم القراءات، والتفسير، والحديث، والفقه. والتاريخ وقد صَنَّف فى علوم كثيرة وأبدع التأليف وأجاد فيما صنَّف، فمن مصنفاته: كتاب التفسير الذى نحن بصدده. وكتاب التاريخ المعروف بتاريخ الأمم والملوك، وهو من أُمهات المراجع، وكتاب القراءات، والعدد والتنزيل، وكتاب اختلاف العلماء، وتاريخ الرجال من الصحابة والتابعين، وكتاب أحكام شرائع الإسلام، ألَّفه على ما أدَّاه إليه اجتهاده، وكتاب التبصر فى أصول الدين... وغير هذا كثير من تصانيفه التى تدل على سعة علمه وغزارة فضله.
ولكن هذه الكتب قد اختفى معظمها من زمن بعيد، ولم يحظ منها بالبقاء إلى يومنا هذا وبالشهرة الواسعة، سوى كتاب التفسير، وكتاب التاريخ.
وقد اعتُبِر الطبرى أباً للتفسير. كما اعتُبِر أباً للتاريخ الإسلامى، وذلك بالنظر لما فى هذين الكتابين من الناحية العلمية العالية. ويقول ابن خلكان: إنه كان من الأئمة المجتهدين، لم يقلدا أحداً، ونُقِل أن الشيخ أبا إسحاق الشيرازى ذكره فى طبقات الفقهاء فى جملة المجتهدين. قالوا: وله مذهب معروف، وأصحاب ينتحلون مذهبه يقال لهم "الجريرية"، ولكن هذا المذهب الذى أسسه - على ما يظهر - بعد بحث طويل، ووجد له أتباعاً من الناس، لم يستطع البقاء إلى يومنا هذا كغيره من مذاهب المسلمين، ويظهر أن ابن جرير كان قبل أن يبلغ هذه الدرجة من الاجتهاد متُمذهباً بمذهب الشافعى، يدلنا على ذلك ما جاء فى الطبقات الكبرى لابن السبكى، من أن ابن جرير قال: أظهرتُ فقه الشافعى، وأفتيتُ به ببغداد عشر سنين، وتلقاه منى ابن بشار الأحول، أستاذ أبى العباس بن سريج. وقال السيوطى فى طبقات المفسِّرين: وكان أولاً شافعياً ثم انفرد بمذهب مستقل، وأقاويل واختيارات، وله أتباع مقلِّدون، وله فى الأصول والفروع كتب كثيرة.
وذكره صاحب لسان الميزان فقال: "ثقة، صادق، فيه تشيع يسير، وموالاة لا تضر... " ثم قال: أقذع أحمد بن على السليمانى الحافظ فقال: كان يضع للروافض، وهذا رجم بالظن الكاذب، بل ابن جرير من كبار أئمة الإسلام المعتمدين، وما ندَّعى


الصفحة التالية
Icon