المحاولات التفسيرية ذهبت بمرور الزمن، ولم يصل إلينا شئ منها، اللَّهم إلا ما وصل إلينا منها فى ثنايا ذلك الكتاب الخالد الذى نحن بصدده.
وأما أوَّليته من ناحية الفن والصناعة، فذلك أمر يرجع إلى ما يمتاز به الكتاب من الطريقة البديعة التى سلكها فيه مؤلفه، حتى أخرجه للناس كتاباً له قيمته ومكانته.
ونريد أن نعطى هنا مثالاً لطريقة ابن جرير فى تفسيره، بعد أن أخذنا فكرة عامة عن الكتاب، حتى يتبين للقارئ أن الكتاب واحد فى بابه، سبق به مؤلفه غيره من المفسِّرين، فكان عمدة المتأخرين، ومرجعاً مهماً من مراجع المفسِّرين، على اختلاف مذاهبهم، وتعدد طرائقهم، فنقول:
* طريقة ابن جرير فى تفسيره:
تتجلَّى طريقة ابن جرير فى تفسيره بكل وضوح إذا نحن قرأنا فيه وقطعنا فى القراءة شوطاً بعيداً، فأول ما نشاهده، أنه إذا أراد أن يفسِّر الآية من القرآن يقول: "القول فى تأويل قوله تعالى كذا وكذا" ثم يفسِّر الآية ويستشهد على ما قاله بما يرويه بسنده إلى الصحابة أو التابعين من التفسير المأثور عنهم فى هذه الآية، وإذا كان فى الآية قولان أو أكثر، فإنه يعرض لكل ما قيل فيها، ويستشهد على كل قول بما يرويه فى ذلك عن الصحابة أو التابعين.
ثم هو لا يقتصر على مجرد الرواية، بل نجده يتعرض لتوجيه الأقوال، ويرجح بعضها على بعض، كما نجده يتعرض لناحية الإعراب إن دعت الحال إلى ذلك، كما أنه يستنبط الأحكام التى يمكن أن تؤخذ من الآية، مع توجيه الأدلة وترجيح ما يختار.
* إنكاره على مَن يفسِّر بمجرد الرأى:
ثم هو يخاصم بقوة أصحاب الرأى المستقلين فى التفكير، ولا يزال يُشدِّد فى ضرورة الرجوع إلى العلم الراجع إلى الصحابة أو التابعين، والمنقول عنهم نقلاً صحيحاً مستفيضاً، ويرى أن ذلك وحده هو علامة التفسير الصحيح، فمثلاً عندما تكلَّم عن قوله تعالى فى الآية [٤٩] من سورة يوسف: ﴿ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذلك عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ الناس وَفِيهِ يَعْصِرُونَ﴾.. نجده يذكر ما ورد فى تفسيرها عن السَلَف مع توجيهه للأقوال وتعرّضه للقراءات بقدر ما يحتاج إليه تفسير الآية، ثم يعرج بعد ذلك على مَنْ يفسِّر القرآن برأيه، وبدون اعتماد منه على شئ إلا على مجرد اللغة، فيفند قوله، ويبطل رأيه، فيقل ما نصه: "... وكان بعض مَن لا علم له بأقوال السَلَف من أهل التأويل، ممن يُفسِّر القرآن برأيه على مذهب كلام العرب، يوجه معنى قوله: ﴿وَفِيهِ يَعْصِرُونَ﴾.. إلى: وفيه ينجون من الجدب والقحط بالغيث، ويزعم أنه مِنَ العصر، والعصر التى بمعنى المنجاة، من قول أبى زبيد الطائى: