وإذا كان ابن جرير يتعقب كثيراً من هذه الروايات بالنقد، فتفسيره لا يزال يحتاج إلى النقد الفاحص الشامل، احتياج كثير من كتب التفسير التى اشتملت على الموضوع والقصص الإسرائيلى، على أن ابن جرير - كما قدَّمنا - قد ذكر لنا السند بتمامه فى كل رواية يرويها، وبذلك يكون قد خرج من العهدة، وعلينا نحن أن ننظر فى السند ونتفقد الروايات.
* *
*انصرافه عما لا فائدة فيه:
ومما يلفت النظر فى تفسير ابن جرير أن مؤلِّفه لا يهتم فيه -كما يهتم غيره من المفسِّرين - بالأمور التى لا تغنى ولا تفيد، فنراه مثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى سورة المائدة: ﴿إِذْ قَالَ الحواريون ياعيسى ابن مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السمآء.......﴾ الآيات إلى قوله: ﴿وارزقنا وَأَنتَ خَيْرُ الرازقين﴾ [١١٢-١١٤].. يعرض لذكر ما ورد من الروايات فى نوع الطعام الذى نزلت به مائدة السماء.. ثم يُعقِّب على هذا بقوله: "وأما الصواب من القول فيما كان على المائدة فأن يقال: كان عليها مأكول، وجائز أن يكون سمكاً وخبزاً، وجائز أن يكون ثمراً من الجنة، وغير نافع العلم به، ولا ضار الجهل به، إذا أقرَّ تالى الآية بظاهر ما احتمله التنزيل".
كما نراه عند تفسير قوله تعالى فى الآية [٢٠] من سورة يوسف: ﴿وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزاهدين﴾.. يعرض لمحاولات قدماء المفسِّرين فى تحديد عدد الدراهم، هل هى عشرون؟ أو اثنان وعشرون؟ أو أربعون؟.. إلى آخر ما ذكره من الروايات.. ثم يُعقِّب على ذلك كله بقوله: "والصواب من القول أن يقال: إنَّ الله - تعالى ذكره - أخبر أنهم باعوه بدراهم معدودة غير موزونة، ولم يحد مبلغ ذلك بوزن ولا عدد، ولا وضع عليه دلالة فى كتاب ولا خبر من الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد يحتمل أن يكون كان اثنين وعشرين، وأن يكون كان أربعون، وأقل من ذلك وأكثر، وأى ذلك فإنها كانت معدودة غير موزونة، وليس فى العلم بمبلغ وزن ذلك فائدة تقع فى دين، ولا فى الجهل به دخول ضُرٍّ فيه، والإيمان بظاهر التنزيل فرض، وما عداه فموضوع عنا تكلف علمه"
* *
*احتكامه إلى المعروف من كلام العرب:
وثمة أمر آخر سلكه ابن جرير فى كتابه، ذلك أنه اعتبر الاستعمالات اللغوية بجانب النقول المأثورة وجعلها مرجعاً موثوقاً به عند تفسيره للعبارات المشكوك فيها، وترجيح بعض الأقوال على بعض.


الصفحة التالية
Icon