فمثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [٤٠] من سورة هود: ﴿حتى إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التنور قُلْنَا احمل فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثنين﴾.. الآية - نراه يعرض لذكر الروايات عن السَلَف فى معنى لفظ "التنور"، فيروى لنا قول مَنْ قال: إن التنور عبارة عن وجه الأرض، وقول مَنْ قال: إنه عبارة عن تنوير الصبح، وقول مَنْ قال: إنه عبارة عن أعلى الأرض وأشرفها، وقول مَنْ قال: إنه عبارة عما يُختبز فيه.. ثم يقول بعد أن يفرغ من هذا كله: "وأَوْلى هذه الأقوال عندنا بتأويل قوله "التنور" قول مَنْ قال: التنور: الذى يُختبز فيه، لأن ذلك هو المعروف من كلام العرب، وكلام الله لا يُوَّجه إلا إلى الأغلب الأشهر من معانيه عند العرب، إلا أن تقوم حُجَّة على شئ منه بخلاف ذلك فيُسلَّم لها، وذلك أنه جَلَّ ثناؤه إنما خاطبهم بما خاطبهم به لإفهامهم معنى ما خاطبهم به... "
* *
* رجوعه إلى الشِعر القديم:
كذلك نجد ابن جرير يرجع إلى شواهد من الشِعر القديم بشكل واسع، متبعاً فى هذا ما أثاره ابن عباس فى ذلك، فمثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [٢٢] من سورة البقرة: ﴿... فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً﴾.. يقول ما نصه: قال أبو جعفر: والأنداد جمع ند، والند: العَدل والمثل، كما قال حسان ابن ثابت:
أتهجوهُ وليستَ له بندٍ... فَشَرُّكُمَا لِخَيرِكُما الفِدَاءُ
يعنى بقوله: "وليستَ له بندٍ": "ليست له بمثل ولا عدل، وكل شئ كان نظيراً لشئ وشبيهاً فهو له ند" ثم يسوق الروايات عمن قال ذلك من السَلَف.
* *
* اهتمامه بالمذاهب النحوية:
كذلك نجد ابن جرير يتعرَّض كثيراً لمذاهب النحويين من البصريين والكوفيين فى النحو والصرف، ويوجه الأقوال، تارة على المذهب البصرى، وأخرى على المذهب الكوفى، فمثلاً عند قوله تعالى فى الآية [١٨] من سورة إبراهيم: ﴿مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشتدت بِهِ الريح فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ﴾.. يقول ما نصه: "اختلف أهل العربية فى رافع "مثل" فقال بعض نحويى البصرة: إنما هو كأنه قال: ومما نَقُصُّ عليكم مَثَل الذين كفروا، ثم أقبل يُفسِّره كما قال: مثل الجنة.. وهذا كثير. وقال بعض نحويى الكوفيين: إنما المَثَل للأعمال، ولكن العرب تُقَدِّم الأسماء لأنها أعرف، ثم تأتى بالخبر الذى تُخْبر عنه مع صاحبه، ومعنى الكلام: مَثَلُ أعمال الذين كفروا بربهم كرماد.. إلخ".