وهكذا يُكثر ابن جرير فى مناسبات متعددة من الاحتكام إلى ما هو معروف من لغة العرب، ومن الرجوع إلى الشِعر القديم يستشهد به على ما يقول، ومن التعرض للمذاهب النحوية عند ما تمس الحاجة، مما جعل الكتاب يحتوى على جملة كبيرة من المعالجات اللغوية والنحوية التى أكسبت الكتاب شهرة عظيمة.
والحق أنَّ ما قدَّمه لنا ابن جرير فى تفسيره من البحوث اللغوية المتعددة والتى تعتبر كنزاً ثميناً ومرجعاً مهماً فى بابها، أمر يرجع إلى ما كان عليه صاحبنا من المعرفة الواسعة بعلوم اللغة وأشعار العرب، معرفة لا تقل عن معرفته بالدين والتاريخ. ونرى أن ننبه هنا إلى أن هذه البحوث اللغوية التى عالجها ابن جرير فى تفسيره لم تكن أمراً مقصوداً لذاته، وإنما كانت وسيلة للتفسير، على معنى أنه يتوصل بذلك إلى ترجيح بعض الأقوال على بعض، كما يحاول بذلك - أحياناً - أن يوفق بين ما صح عن السَلَف وبين المعارف اللغوية بحيث يزيل ما يُتوهم من التناقض بينهما.
* *
* معالجته للأحكام الفقهية:
كذلك نجد فى هذا التفسير آثاراً للأحكام الفقهية، يعالج فيها ابن جرير أقوال العلماء ومذاهبهم، ويخلص من ذلك كله برأى يختاره لنفسه، ويرجحه بالأدلة العلمية القيمة، فمثلاً نجده عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [٨] من سورة النحل: ﴿والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾.. نجده يعرض لأقوال العلماء فى حكم أكل لحوم الخيل والبغال والحمير، ويذكر قول كل قائل بسنده... وأخيراً يختار قول مَنْ قال: إن الآية لا تدل على حُرْمة شئ من ذلك، ووجَّه اختياره هذا فقال ما نصه: "والصواب مِنَ القول فى ذلك عندنا ما قاله أهل القول الثانى - وهو أن الآية لا تدل على الحُرْمة - وذلك أنه لو كان فى قوله - تعالى ذكره - ﴿لِتَرْكَبُوهَا﴾ دلالة على أنها لا تصلح إذا كانت للركوب للأكل، لكان فى قوله: ﴿فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ﴾ دلالة على أنها لا تصلح إذ كانت للأكل والدفء للركوب. وفى إجماع الجميع على أنَّ ركوب ما قال تعالى ذكره: ﴿وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ﴾ جائز حلال غير حرام، دليل واضح على أن أكل ما قال: ﴿لِتَرْكَبُوهَا﴾ جائز حلال غير حرام، إلا بما نص على تحريمه، أو وضع على تحريمه دلالة من كتاب أو وحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما بهذه الآية فلا يحرم أكل شئ. وقد وضع الدلالة على تحريم لحوم الحُمُر الأهلية بوحيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى البغال بما قد بيَّنا فى كتابنا "كتاب الأطعمة" بما أغنى عن إعادته فى هذا الموضع، إذ لم يكن هذا الموضع من مواضع البيان