تفسيراً باطنياً فقال: "المراد بالليل - كما سمعته منى مراراً - هو عبارة عن أيام غيبة شمس الحقيقة، واليوم حسب ما نزل فى التوراة المقدِّس يُحسب كل يوم واحد بسنة واحدة، وكان موسى عليه السلام لما فارق أرض مصر، وفرَّ من فرعون وملئه إلى مدين، كان ابن ثلاثين، وأقام فى مدين عشر سنوات يشتغل فيها برعى أغنام شعيب النبى عليه السلام، وكان فى طى هذه المدة التى كانت كالليالى المظلمة، والدياجى الكالحة من ظلم الفراعنة، وأوهام الصابئة، مشتغلاً بتهذيب أخلاقه، وتطييب أعراقه، وتنقية فؤاده، والمناجاة مع ربه فى وحدته وانفراده، فلما طاب خلُقُه، وتم خَلْقه، بعثه الله نبياً لهداية بنى إسرائيل، وإنقاذهم من ذلك الوبيل. فالمراد بأربعين ليلة هو أربعون سنة. أقام موسى عليه السلام فى أثنائها فى مصر ومدين، ولا تنافى كلمة "واعدنا" هذا التفسير، حيث ظاهرها يقتضى تكلم الرب مع موسى قبل بعثته، فإن أمثال هذه الكلمة كثيراً ما أُطلقت على ما أُلقى فى الروع، وأُلهم فى القلب، حتى على الحيوانات، كما يدل عليه قوله تعالى: ﴿وأوحى رَبُّكَ إلى النحل أَنِ اتخذي مِنَ الجبال بُيُوتاً﴾، ﴿وَقَالَ موسى لأَخِيهِ هَارُونَ اخلفني فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ المفسدين﴾... ظاهر الآية المباركة يدل على أن موسى عليه السلام أخلف أخاه هارون حينما كان مع الشعب فى البرية، كما هو مذكور فى التواريخ، إلا أن التواريخ القديمة مظلمة جداً، حيث إن المؤرخين اعتمدوا فى هذه المسائل على ما جاء فى التوراة وسائر الكتب العتيقة، ولكنا أثبتنا فى كتاب الدرر البهية ضعف هذا المستند من حيث العلم، فيجوز أن يكون هارون مستخلفاً عن موسى عليهما السلام، لحفظ الشعب أيام غياب موسى فى مدين، وقد كان بنو إسرائيل يحافظون على التوحيد من لدن جدهم إبراهيم عليه السلام، فلما غاب موسى وضع بنو إسرائيل رسم عجل إبيس أحد معبودات المصريين تزلفاً إلى فرعون وقومه،
فكأنهم تجنسوا بالجنسية المصرية، واعتنقنوا الديانة الوثنية، فلما رجع موسى عليه السلام ورآهم على تلك الحال السيئة والعبادة الباطلة، أنكر ذلك على هارون، كما ذكره المؤرخون، إذ لا يعقل أن بنى إسرائيل على ما عُرفوا بصلابة الرأى يتركون ديانتهم الموروثة بسبب تأخير موسى عن الرجوع إليهم عشر ليال.
ثم قال تعالى: ﴿وَلَمَّا جَآءَ موسى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي ولاكن انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تجلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسى صَعِقاً فَلَمَّآ أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ المؤمنين﴾ [الأعراف: ١٤٣].. اعلم - حفظك الله - أن علماءنا - سامحهم الله - اختلفوا فى رؤية الله تعالى وعدم جواز رؤيته، فالشيعة والمعتزلة أنكروا جواز رؤيته، حيث تقتضى الجهة والمقابلة، وهى من مقتضيات الجسد والتحين والتحدد وأمثال ذلك، وهو منزَّه


الصفحة التالية
Icon