عن تلك الأوصاف، إذ لم يفهموا من لفظة "الله" سوى الذات، ولا شك أن الذات منزَّهة عن تلك الصفات. وأهل السُّنَّة والجماعة جوَّزوا رؤية الله تعالى اعتماداً على صريح الآيات، واستناداً على صريح الأحاديث والروايات، وكانوا على هذه العقيدة الصالحة إلى أواسط القرون الهجرية، فمزجوها بالعقائد الوهمية، حيث شاعت فى تلك القرون بينهم المسائل الكلامية، والمعارف الناقصة العقلية، فإنهم قالوا: إن رؤية الله تعالى جائزة وواقعة فى القيامة، إلا أنها ليست من قبيل الإحاطة بالنظر، فترى ذات الله تعالى من غير مواجهة ومقابلة، وكيفية وإحاطة، مما يرجع إلى الوهم الصريح، وإنكار الرؤية حقيقة، وأهل البهاء المستظلين بظلال الفرع الكريم المتشعب من الدوحة المباركة العليا، لما عرفوا - على حسب ما يعلمون من القلم الأعلى - أن ذات الله بسبب تجردها وتقديسها الذاتى لا تُدرك، ولا تُوصف، ولا تُسمى باسم، ولا تُشار بإشارة، ولا تتعين بإرجاع ضمير. والأسماء والأوصاف وكل ما يُسند ويُضاف إليها راجعة فى الحقيقة إلى مظاهرها ومطالعها، ولذلك سهل عليهم فهم معنى أمثال تلك الألفاظ التى نزلت فى الكتب المقدسة والصحف المطهّرة، من قبيل رؤية الله تعالى، ولقاء الله وظهور الله ومجىء الله وغيرها مما ليس بخاف على أهل التحقيق. ثم اعلم أيها الحبيب اللبيب أن أهل البيان كثيراً ما أطلقوا فى عباراتهم لفظ "جَلَّ" على أكابر الرجال استعارة، سواء أكانوا من صناديد الدولة والملك، أو من
قروم أهل العلم والفضل، كما أطلق أمير المؤمنين عليه السلام على مالك بن الحارث النخعى المعروف بالأشتر، لما اشتهر ذكر وفاته، وأخبر بمماته، ومقامه عليه السلام معلوم لديك فى الفصاحة والبراعة، ورسائله وخطبه مستغنية عن المدح والإطراء بالطلاوة والصناعة، وعبارته هذه مذكورة فى نهج البلاغة. وهذه استعارة فى غاية المناسبة واللَّطافة حيث إن أكابر الرجال هم بمنزلة الأوتاد، لاستقرار أرض المعارف والديانة، أو الأُمة والدولة، وكثيراً ما أطلقه داود عليه السلام فى مزاميره، وسائر الأنبياء من بنى إسرائيل فى كتبهم على الرب تعالى، كما جاء فى مزمور [٤٢] :"أقول لله صخرتى لماذا نسيتنى"، وجاء فى مزمور [٧١] :"كن لى صخرة وملجأ أدخله دائماً. أمرت بخلاصى لأنك صخرتى وحصنى"... إلى كثير من أمثالها، فإذا عرفت هذا، فاعلم أن موسى عليه السلام إنما طلب رؤيا الله تعالى بسبب اقتراح الشعب عليه أن يريهم الله، كما يدلك عليه قوله تعالى: ﴿أَرِنَا الله جَهْرَةً﴾ إلا أن الله تعالى أخبره بأن رؤيته موقوفة باستقرار جبال العلم والإيمان فى مكانهم من الإذعان واليقين، ولكنهم بسبب عدم بلوغهم إلى المقام الثابت الراسخ المكين من العلم والمعرفة واليقين فلا بد وأن تندك جبال وجودهم، ويتزعزع بنيان إذعانهم لمعبودهم حين لقائه فيتبدل إيمانهم بالكفر، ويقينهم بالشك، وإقبالهم بالإعراض، حيث لم تكمل بعد مراتب