أنبيائه، انظر كيف يقول لموسى وهارون: ﴿اذهبآ إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى * فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى﴾ [طه: ٤٣-٤٤]، ويقول لرسوله الكريم: ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القلب لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ﴾ [آل عمران: ١٥٩]، ﴿واخفض جَنَاحَكَ لِمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين﴾ [الشعراء: ٢١٥].. وبيَّن الله ذلك فقال: ﴿وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فاضرب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ﴾ [ص: ٤٤]، أى لا ترفع فى وجوه قومك رمحاً ولا عصاً، ولا تُغلظ لهم القول، ولا تخاشنهم فى الطلب، بل لوِّح فى وجوههم بالرياحين والأزهار، ولا تأثم بالغلظة والجفوة، فإنك بخفض الجناح والجدال بالتى هى أحسن تبلغ منهم ما لا تبلغه بالسيف، والعصا، والخشونة، والغلظة.. فانظر إلى ما فى الآية من كناية ما أجملها وأعلاها. وما أخصبها وأرواها، وانظر كم تعطيك على هذا الوجه من فنون البلاغة، وكم تمنحك من جزالة فى الأسلوب، ثم هم - يريد المفسِّرين - بعد ذلك يمسخونها ويشوهونها، فيجعلونها منقطعة عما قبلها، وما بعدها، فتقلق فى مرقدها، وتنبو فى مضجعها، إذ يجعلونها متوقفة فى فهمها على معونة أجنبية من الكلام الذى هى فيه، وذل من أدعى الدواعى لانحطاط الكلام عن المستوى العالى لكلام البَشر، فضلاً عن مستوى الإعجاز الذى يجب أن يكون عليه القرآن الكريم".
"هذا ما رأيت أن تؤول به تلك الآيات، استناداً إلى ما جرى عليه قصص القرآن، وتحامياً لما يترتب على ما فسَّر به المفسِّرون تلك الآيات من خدش قدس أيوب عليه السلام، باعتباره نبياً رسولاً، ومن منافاة ذلك لحكمته السامية، وتفادياً من أن يُحدِّثنا القرآن عن أمر عادى، وهو أن شخصاً مرض ثم دعا ربه فشفاه من مرضه.. ذلك الحديث الذى لا يتحدث به عظيم من الناس فضلاً عن الله تعالى، ولا يُحَدِّث به عن رجل عادى فضلاً عن أيوب الرسول الكريم".
هذا هو التفسير الصحيح فى نظر صاحبه، وأحسب أن القارئ الكريم سوف لا يتردد فى الحكم عليه بأنه تفسير منابذ لبلاغة القرآن، ومخالف لظاهره الذى عُرِف منذ عهد الصحابة والتابعين، وأى شىء يقف فى سبيل المعنى الظاهر حتى نعدل عنه إلى مجاز أو كناية فيها تعسف ظاهر وتكلف غير مقبول؟ اللَّهم لا شىء إلا دعوى التجديد، والثورة على القديم، والعمل على هدم آراء العلماء الذين عرف الناس مبلغ خدماتهم للعلم، ودفاعهم عن الدين.
ولا أُطيل بذكر ما أُفَنِّد به هذا الرأى الشاذ وما يحمله من دعاوى غير صحيحة على المفسِّرين جميعاً، فقد سبقنى إلى هذا أحد أساتذتى الأجلاء، ولست ببالغ مبلغه من العلم، ولا بآت بأكثر مما أتى به فى الرد على صاحب هذا الرأى.
* *


الصفحة التالية
Icon