وعقد القاضي فصلاً (في اختصاص القرآن بمزية في رتبة الفصاحة خارجة عن العادة) فلم يتناول الموضوع تناول البلاغيين بل مضى على طريقته في الاستدلال لإعجاز القرآن بعلو مرتبته في الفصاحة إلى حيث بايَنَ الفصيح من كلام العرب، وأعياهم أن يأتوا بمثله، قال: بينا أن العرب كانت عارفة بما يباين المعتاد من الفصيح، للتجربة والعادة. فلم تكن عند سماع القرآن والوقوف على مزيته محتاجة إلى تجربة مجددة، وعلمت خروجَه عن العادة. ومَن قصَّر حاُله عن حالهم فكَمِثْل، لأنه إذا عرف بالتجربة تعذر مثل كلامهم عليه، فبأن يتعذر عليه أوْلى. وإن كان لا يمتنع أن يكون في العرب من ظن في الوقت أن مثل القرآن يواتيه إن رامه، ثم تبين تعذره. وإن كان ذلك - الظن - يبعد من أهل التقدم في الفصاحة، كما يبعد ممن جرب مقادير ما يمكنه أن يفعله، أن تلتبس عليه حال الأمور العظيمة. وقد أورد بعضُ شيوخنا عند جحد بعض اليهود أن للقرآن مزية، بعض ما ذكرناه من حال العرب. ثم تلا عليه قوله تعالى:
﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (١) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (٢) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (٣) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ وبعضهم تلا قوله تعالى:
﴿وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾.
وإذا تأمل السامع لقوله تعالى: ﴿وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ﴾
إلى آخر الآيات، علم أن كزيته على ما نسمع من الكلام الفصيح عظيمةٌ، وإنما يشتبه مثلُ ذلك على من لاحظَّ له" ١٦ / ١٣٤
ثم كان أكثر ما تجرد له القاضي عبد الجبار: الرد على مطاعن المخالفين في القرآن (٣٣٧) وبطلان القول بأن للتنزيل في القرآن تأويلاً باطناً غير ظاهر، على ما يحكى الباطنية (٣٦٣) وبطلان طعنهم في القرآن بأن فيه تناقضاً واختلافاً فيما يتصل باللفظ والمعنى والمذهب (٣٨٧) وبيان فساد طعنهم من جهة التكرار والتطويل وما يتصل بذلك (٣٩٧).