وانطلاقاً من هذا الملحظ لسر الحرف، أقدم هنا لقضية الإعجاز البياني، بعض الشزاهد من حروف قرآنية، حاول اللغويون والبلاغيون في تأويلها أن يعدلوا بها على وجه التقدير، عن الوجه الذي جاءت به، لكي تلبي مقتضيات الصنعة الإعرابية وتخضع لقواعد المنطق البلاغي المدرسي، فبقيت هذه الحروف تتحدى كل محاولة بتغيير أو تقدير لحذف أو زيادة.
منها مثلاً حرف الباء، في مثل أية القلم:
﴿مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ﴾.
جرى النحاة والمفسرون على القول بأن هذه الباء زائدة في خبر ما، كما تأتي زائدة في خبر ليس. فهي تعمل في لفظ الخبر، ويبقى الحكم الإعرابي على أصله منصوباً بفتحة مقدرة على أخر الخبر، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد.
لا يعنون بلفظ الزيادة أنها تأتي عبثاً أو لغواً، وإنما هي زائدة عندهم للتأكيد. وقد جاء "ابن هشام" بهذه الباء الزائدة في الخبر، مع خمسة مواضع أخرى لزيادة الباء، وأدرجها جميعاً تحت حكم عام هو: معنى التأكيد المستفاد من الباء الزائدة.
ومع تنبههم إلى أن من هذه المواضع ما تكون الزيادة فيه واجبة وغالبة وضرورة، جرت الصنعة الإعرابية على قصر عملها على اللفظ دون المعنى.
وباستقراء ما في القرآن من خبر "ما، وليس" تلقانا كثيرا، ظاهرة مجيء هذه الباء المقول بزيادتها، في خبرهما المفرد الصريح غير المؤول.


الصفحة التالية
Icon