والذي حكاه الشعراء العرب عن مغامراتهم مع الغيلان ونقلوه من كلامهم، هو بلا ريب من كلام الشعراء أنفسهم.
ودون أن ندخل في مناقشة لحقيقة هذه المغامرات وما إذا كان الشعراء فيها يحكون عن مشاهدة لما تجسَّد من تصوراتهم، أو أن الأمر فيها لا يعدو تجاوب شعرية لمغامرات خيالية.
أقول إن الشاعر حين يحكي عن الجن ويتحدث بلسان الغيلان، فبِلُغَته يتكلم وبلسانه هو يعبر: وقد جمع "المرزبانى" في القرن الرابع جملة من (أشعار الجن) في كتاب له بهذا الاسم، أشار إليه أبو العلاء في (رسالة الغفران) حين التقى بالجني "أبي هدرش، الخيتعور، من بني الشيصبان: حيَّ من الجن".
وشخصية أبي هدرش من الشخوص المسرحية التي ابتدعها خيال أبي العلاء، ونظم على لسانه قصيدتين مطولتين تحكيان مغامراته. والقصيدتان مشحونتان بغريب الألفاظ، ولا كلمة منها أو من الحوار الذي أنطق فيه أبو العلاء أبا هدرش، يمكن أن نحكم بها على كلام الجن حقيقة، وإنما النصوص كلها لأبي العلاء تصوراً وصياغة ولفظاً!
وما تحدثت التوابع والزوابع في (رسالة ابن شهيد) وإنما تحدث "ابن شهيد" بلسانها، شعراًَ ونثراً.
وأقرب من هذا إلى ما نحن بصدده من معاجزة الجن، أن نذكر أن القرآن الكريم قد حكى عن الجن، فهل يخرج ما حكاه من ذلك، عن البيان القرآني المعجز، إلا كلام الجن على الحقيقة؟
وهل نطق الهدهد والنملة، بنص الكلمات التي نتلوها في سورة النمل؟
وكذلك قص علينا القرآن من قصص الغابرين، مثل حوار أهل الكهف، ونوح وابنه، وموسى وفرعون والسحرة، وامرأة العزيز ونسوة بالمدينة، والعزيز والملأ من قومه، وإبراهيم والملائكة...


الصفحة التالية
Icon