إِذْ رمى بطرفه نَحْو فرعها فَإِذا هُوَ أَشد مِمَّا كَانَ خضرَة ساطعة فِي السَّمَاء ينظر إِلَيْهَا يغشى الظلام ثمَّ لم تزل الخضرة تنوّر وَتَصْفَر وتبيض حَتَّى صَارَت نورا ساطعاً عموداً بَين السَّمَاء وَالْأَرْض عَلَيْهِ مثل شُعَاع الشَّمْس تكل دونه الْأَبْصَار كلما نظر إِلَيْهِ يكَاد يخطف بَصَره فَعِنْدَ ذَلِك اشْتَدَّ خَوفه وحزنه فَرد يَده على عَيْنَيْهِ ولصق بِالْأَرْضِ وَسمع الحنين والوجس
إِلَّا أَنه سمع حِينَئِذٍ شَيْئا لم يسمع السامعون بِمثلِهِ عظما فَلَمَّا بلغ مُوسَى الكرب وَاشْتَدَّ عَلَيْهِ الهول نُودي من الشَّجَرَة فَقيل: يَا مُوسَى فَأجَاب سَرِيعا وَمَا يدْرِي من دَعَاهُ وَمَا كَانَ سرعَة إجَابَته إِلَّا استئناساً بالإنس فَقَالَ لبيْك مرَارًا إِنِّي لأسْمع صَوْتك وأحس حسك وَلَا أرى مَكَانك فَأَيْنَ أَنْت قَالَ: أَنا فَوْقك ومعك وخلفك وَأقرب إِلَيْك من نَفسك
فَلَمَّا سمع هَذَا مُوسَى علم أَنه لَا يَنْبَغِي هَذَا إِلَّا لرَبه فأيقن بِهِ فَقَالَ: كَذَلِك أَنْت يَا إلهي فكلامك اسْمَع أم رَسُولك قَالَ: بل أَنا الَّذِي أُكَلِّمك فادن مني فَجمع مُوسَى يَدَيْهِ فِي الْعَصَا ثمَّ تحامل حَتَّى اسْتَقل قَائِما فَرعدَت فرائصه حَتَّى اخْتلفت واضطربت رِجْلَاهُ وَانْقطع لِسَانه وانكسر قلبه وَلم يبْق مِنْهُ عظم يحمل آخر فَهُوَ بِمَنْزِلَة الْمَيِّت إِلَّا أَن روح الْحَيَاة تجْرِي فِيهِ ثمَّ زحف على ذَلِك وَهُوَ مرعوب حَتَّى وقف قَرِيبا من الشَّجَرَة الَّتِي نُودي مِنْهَا
فَقَالَ لَهُ الرب تبَارك وَتَعَالَى: ﴿وَمَا تِلْكَ بيمينك يَا مُوسَى﴾ قَالَ: هِيَ عصاي
قَالَ: مَا تصنع بهَا - وَلَا أحد أعلم مِنْهُ بذلك - قَالَ مُوسَى: ﴿أتوكأ عَلَيْهَا وأهش بهَا على غنمي ولي فِيهَا مآرب أُخْرَى﴾ قد علمتها وَكَانَ لمُوسَى فِي الْعَصَا مآرب كَانَ لَهَا شعبتان ومحجن تَحت الشعبتين فَإِذا طَال الْغُصْن حناه بالمحجن وَإِذا أَرَادَ كَسره لواه بالشعبتين وَكَانَ يتَوَكَّأ عَلَيْهَا ويهش بهَا وَكَانَ إِذا شَاءَ أَلْقَاهَا على عَاتِقه فعلق بهَا قوسه وكنانته ومرجامه ومخلاته وثوبه وَزَادا إِن كَانَ مَعَه وَكَانَ إِذا ارتع فِي الْبَريَّة حَيْثُ لَا ظلّ لَهُ ركزها ثمَّ عرض بالوتد بَين شعبتيها وَألقى فَوْقهَا كساءه فاستظل بهَا مَا كَانَ مرتعاً وَكَانَ إِذا ورد مَاء يقصر عَنهُ رشاؤه وصل بهَا وَكَانَ يُقَاتل بهَا السبَاع عَن غنمه
قَالَ لَهُ الرب ﴿ألقها يَا مُوسَى﴾ فَظن مُوسَى أَنه يَقُول: ارفضها
فألقاها على وَجه الرَّفْض ثمَّ حانت مِنْهُ نظرة فَإِذا بأعظم ثعبان نظر إِلَيْهِ الناظرون يرى يلْتَمس كَأَنَّهُ يَبْتَغِي شَيْئا يُرِيد أَخذه يمر بالصخرة مثل الخلفة من الْإِبِل فيلتقمها ويطعن بالناب من أنيابه فِي أصل الشَّجَرَة الْعَظِيمَة فيجتثها عينان توقدان نَارا وَقد عَاد المحجن عرقاً فِيهِ