وَهُوَ صَرِيحُ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا الْآيَةَ [١١ ١٥]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ [٩]،
وَقَوْلِهِ: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [٢٥ ٢٣] وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ عَمَلِ الْكَافِرِ مِنْ أَصْلِهِ، كَمَا أَوْضَحَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ [٢ ٢١٧]، فَجَعَلَ كِلْتَا الدَّارَيْنِ ظَرْفًا لِبُطْلَانِ أَعْمَالِهِمْ وَاضْمِحْلَالِهَا، وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَحْقِيقُ هَذَا الْمَقَامِ فِي سُورَةِ «هُودٍ».
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ أَيْ يُسْلِمُونَ، أَيْ: وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ، وَقَدْ سَبَقَ فِي عِلْمِهِ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يُسْلِمُ وَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْ كُفْرِهِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَقَوْلُهُ: وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ، فِي الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمُ الشَّقَاوَةُ كَأَبِي جَهْلٍ وَأَصْحَابِهِ الَّذِينَ عُذِّبُوا بِالْقَتْلِ يَوْمَ بَدْرٍ.
وَنَقَلَ ابْنُ جَرِيرٍ مَعْنَى هَذَا الْقَوْلِ عَنْ عِكْرِمَةَ وَمُجَاهِدٍ، وَأَمَّا مَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ مِنْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ نَاسِخٌ لِقَوْلِهِ: وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ فَبُطْلَانُهُ ظَاهِرٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ الْآيَةَ، خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ بِعَدَمِ تَعْذِيبِهِ لَهُمْ فِي حَالَةِ اسْتِغْفَارِهِمْ، وَالْخَبَرُ لَا يَجُوزُ نَسْخُهُ شَرْعًا بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَظْهَرُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الْأَوَّلَانِ.
مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ الْآيَةَ [٨ ٦٥].
ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْوَاحِدَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَجِبُ عَلَيْهِ مُصَابَرَةُ عَشَرَةٍ مِنَ الْكُفَّارِ، وَقَدْ ذَكَرَ تَعَالَى مَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ الْآيَةَ [٨ ٦٦].
وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا، أَنَّ الْأَوَّلَ مَنْسُوخٌ بِالثَّانِي، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ الْآيَةَ [٨ ٦٦]، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.