لِوُقُوعِ التَّوْبَةِ مِنْهُ، فَإِلْقَاءُ الشَّيْطَانِ فِي أُمْنِيَّةِ النَّبِيِّ سَوَاءٌ فَسَّرْنَاهَا بِالْقِرَاءَةِ أَوِ التَّمَنِّي لِإِيمَانِ أُمَّتِهِ، لَا يَتَضَمَّنُ
سُلْطَانًا لِلشَّيْطَانِ عَلَى النَّبِيِّ، بَلْ مِنْ جِنْسِ الْوَسْوَسَةِ وَإِلْقَاءِ الشُّبَهِ لِصَدِّ النَّاسِ عَنِ الْحَقِّ كَقَوْلِهِ: وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ الْآيَةَ [٢٧ ٢٤].
فَإِنْ قِيلَ: ذَكَرَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ سُورَةَ " النَّجْمِ، بِمَكَّةَ، فَلَمَّا بَلَغَ: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى [٥٣ ١٩ - ٢٠]، أَلْقَى الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِهِ: تِلْكَ الْغَرَانِيقُ الْعُلَا، وَإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لَتُرْجَى، فَلَمَّا بَلَغَ آخِرَ السُّورَةِ سَجَدَ وَسَجَدَ مَعَهُ الْمُشْرِكُونَ وَالْمُسْلِمُونَ، وَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: مَا ذَكَرَ آلِهَتَنَا بِخَيْرٍ قَبْلَ الْيَوْمِ، وَشَاعَ فِي النَّاسِ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ أَسْلَمُوا بِسَبَبِ سُجُودِهِمْ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى رَجَعَ الْمُهَاجِرُونَ مِنَ الْحَبَشَةِ، ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّ قَوْمَهُمْ أَسْلَمُوا، فَوَجَدُوهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ.
وَعَلَى هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، فَسُلْطَانُ الشَّيْطَانِ بَلَغَ إِلَى حَدٍّ أَدْخَلَ بِهِ فِي الْقُرْآنِ، عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكُفْرَ الْبَوَاحَ، حَسْبَمَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ الْقِصَّةِ الْمَزْعُومَةِ.
فَالْجَوَابُ أَنَّ قِصَّةَ الْغَرَانِيقِ مَعَ اسْتِحَالَتِهَا شَرْعًا لَمْ تَثْبُتْ مِنْ طَرِيقٍ صَالِحٍ لِلِاحْتِجَاجِ، وَصَرَّحَ بِعَدَمِ ثُبُوتِهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، كَمَا بَيَّنَّاهُ بَيَانًا شَافِيًا فِي رِحْلَتِنَا.
وَالْمُفَسِّرُونَ يَرْوُونَ هَذِهِ الْقِصَّةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْكَلْبِيَّ مَتْرُوكٌ.
وَقَدْ بَيَّنَ الْبَزَّارُ أَنَّهَا لَا تُعْرَفُ مِنْ طَرِيقٍ يَجُوزُ ذِكْرُهُ إِلَّا طَرِيقَ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مَعَ الشَّكِّ الَّذِي وَقَعَ فِي وَصْلِهِ.
وَقَدِ اعْتَرَفَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ مَعَ انْتِصَارِهِ لِثُبُوتِ هَذِهِ الْقِصَّةِ، بِأَنَّ طُرُقَهَا كُلَّهَا، إِمَّا مُنْقَطِعَةٌ أَوْ ضَعِيفَةٌ، إِلَّا طَرِيقَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ.
وَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ طَرِيقَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ لَمْ يَرْوِهَا بِهَا أَحَدٌ مُتَّصِلَةً إِلَّا أُمَيَّةَ بْنَ خَالِدٍ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ ثِقَةً فَقَدْ شَكَّ فِي وَصْلِهَا، فَقَدْ أَخْرَجَ الْبَزَّارُ