الشبه في دين الله، لم يكن بين يديه نص فخالفه كفاحًا، أو جاوزه خطأً ونسيانًا، بل كل ذنبه أنه مجتهدٌ بذل وسعه في النظر، ورأى نفسه مخيرًا فتخير، هبه مجتهدًا أخطأ باختيار خلاف الأفضل.. أليس معذورًا ومأجورًا؟ على أن الذي اختاره كان هو خير ما يختاره ذو حكمة بشرية١ وإنما نبهه القرآن إلى ما هو أرجح في ميزان الحكمة الإلهية. هل ترى في ذلك ذنبًا يستوجب عند العقل هذا التأنيب والتثريب؟ أم هو مقام الربوبية ومقام العبودية، وسنة العروج بالحبيب في معارج التعليم والتأديب؟
توفي عبد الله بن أُبَيّ كبيرُ المنافقين؛ فكفنه النبي في ثوبه، وأراد أن يستغفر له ويصلي عليه، فقال عمر -رضي الله عنه: أتصلي عليه وقد نهاك ربك؟ فقال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنما خيرني ربي فقال: ﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً﴾ وسأزيده على السبعين" وصلى عليه٢، فأنزل الله تعالى: ﴿وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ﴾ ٣ فترك الصلاة عليهم -اقرأ هذه القصة الثابتة برواية الصحيحين وانظر ماذا ترى؟ إنها لتمثل لك نفس هذا العبد الخاضع وقد اتخذ من القرآن دستورًا يستملي أحكامه من نصوصه الحرفية، وتمثل لك قلب هذا البشر الرحيم وقد آنس من ظاهر٤ النص الأول تخييرًا له بين طريقين، فسرعان ما سلك أقربهما إلى الكرم الرحمة، ولم يلجأ إلى الطريق الآخر إلا بعد ما جاءه النص الصريح بالمنع.

١ وما كان اختيار عمر -رضي الله عنه- في مسألة الأسرى ونحوها إلا مظهرًا من مظاهر الشدة التي كانت أغلب على طبعه. وإن كادت هذه الشدة لتفتنه عن أمر الله يوم الحديبية كما سيجيء. فكانت موافقته للوحي في تلك المسائل مصادفة للحكم من غير مقدماته الحقيقية التي انفرد بها علام الغيوب.
٢ البخاري عن ابن عمر، ك/ تفسير القرآن، ب/ قوله: ﴿وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا... ﴾ "٤٣٠٤".
٣ سورة التوبة: الآية ٨٤.
٤ نقول: ظاهر النص؛ لأن العطف بأو يحتمل أن يكون التسوية لا التخيير، كما أن صيغة العدد تحتمل أن تكون المبالغة لا التحديد، وكلاهما احتمال قوي، إلا أن معنى التخيير والتحديد آت على أصل الوضع، وعلى مقتضى كرم الطبع، فلم يعدل عنه الرسول الكريم إلا بنص آخر.


الصفحة التالية
Icon