قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِذْ يُغَشِّيكُمُ ٱلنُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ ﴾؛ قال جماعةٌ من المفسِّرين:" وذلكَ أنَّهُ لَمَّا أمرَ اللهُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم بالمسيرِ إلى الكفَّار، سارَ بمن معَهُ حتى إذا كان قَرِيباً من بدرٍ لَقِيَ رجُلين في الطريقِ، فسألَهما: " هَلْ مَرَّتْ بكُمَا الْعِيرُ؟ " قالا: نَعَمْ مرَّت بنا لَيلاً، وكان بين يدَي رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عشرةٌ من المسلمين، فأخَذُوا الرَّجُلين، وكان أحدُهما عبدَ العبَّاس بنِ عبدِ المطلب يقال له أبُو رافعٍ، والآخرُ عَبداً لعُقبة بن أبي مُعِيطٍ يقالُ له أسلَمَ كانَا يسقِيَانِ الماءَ، فجاؤُا بهما إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، واستخلَى بأبي رافعٍ ودفعَ أسلمَ إلى أصحابهِ يسألونَهُ، فقالَ صلى الله عليه وسلم لأبي رافعٍ: " مَنْ خَرَجَ مِنْ أهْلِ مَكَّةَ؟ " فقالَ: ما بَقِيَ أحدٌ إلا وقد خرجَ، فقال صلى الله عليه وسلم: " أتَتْ مَكَّةَ الْيَوْمَ بأفْلاَذِ كَبدِهَا " ثمَّ قَالَ: " هَلْ رَجَعَ مِنْهُمْ أحَدٌ؟ " قال: نَعَمْ؛ أُبَيُّ بنُ شَرِيفٍ في ثلاثِمائة من بني زُهرة، وكان خرجَ لمكان العِيرِ، فلما أقبَلت العِيرُ رجعَ، فسمَّاهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الأخْنَسَ حين خَنَسَ بقومهِ، ثُم أقبلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على أصحابهِ وهم يَسألُونَ أسلمَ، وكان يقولُ لَهم: خرجَ فلانٌ وفلان، وأبُو بكرٍ رضي الله عنه يضربهُ بالعصَا ويقولُ له: كذبتَ بخبرِ الناسِ، فقالَ صلى الله عليه وسلم: " إنْ صَدَقَكُمْ ضَرَبْتُمُوهُ، وَإنْ كَذبَكُمْ تَرَكْتُمُوهُ " فعَلمُوا أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قد عرفَ أمرَهم ". فسَاروا حتى نزَلُوا بدراً بجانب الوادِي على غيرِ ماءٍ، ونزلَ المشركون على جانبهِ الأقصَى على الماءِ، والوادِي بينَهما فبَاتُوا ليلَتَهم تلك، فألقَى اللهُ على المسلمين النَّومَ فنَامُوا، ثم استيقَظُوا وقد أجْنَبُوا وليس معهم ماءٌ، فأتَاهُم الشيطانُ فوَسْوَسَ إليهم وقالَ: لهم تزعُمون أنَّكم على دينِ الله وأنتم مُجنِبُونَ تُصَلُّونَ على الجنَابَةِ، والمشرِكُون على الماءِ. فأمطَر اللهُ الوادي وكان ذا رَمْلٍ تغيبُ فيه الأقدامُ، فاشتدَّ الرملُ وتلبَّدت بذلك أرضُهم وأوْحَلَ أرضَ عدوِّهم، وبنَى المسلمون في مكانِهم حِياضاً واغْتسَلُوا من الجنابةِ وشرِبُوا وسَقَوا دوابَّهم وتَهيَّأُوا للقتالِ، فذلك قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِذْ يُغَشِّيكُمُ ٱلنُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ ﴾ أي واذكرُوا إذ يُلقِي اللهُ عليكم النُّعاسَ، والنُّعاسُ: أولُ النَّومِ قبل أن يثقلَ. وقولهُ تعالى: ﴿ أَمَنَةً مِّنْهُ ﴾ أي أمْناً من اللهِ منهم بوعدِ النَّصرِ أمْناً حتى غَشِيَهم النعاسُ في حالِ الاستعداد للقتال. قال ابنُ عبَّاس: (النُّعَاسُ عِنْدَ الْقِتَالِ أمْنٌ مِنَ اللهِ، وَفِي الصَّلاَةِ مِنَ الشَّيْطَانِ). قرأ ابنُ كثيرٍ وأبو عمرو (يَغْشَاكُمُ) واحتجَّا بقولهِ تعالى:﴿ يَغْشَىٰ طَآئِفَةً مِّنْكُمْ ﴾[آل عمران: ١٥٤] فجعلَ الفعلَ للنُّعاس. وقرأ نافعُ (يُغْشِيكُمْ) على أنَّ الفعلَ للهِ تعالى ليكون مُطابقاً لقوله: (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً) واحتجَّ بقولهِ تعالى:﴿ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ ﴾[يونس: ٢٧].
وقرأ الحسنُ وأبو رجَاءٍ وعكرِمة وأهلُ الكوفة وابنُ عامر ويعقوب (يُغَشِّيكُمْ) بالتشديد لقوله تعالى:﴿ فَغَشَّاهَا مَا غَشَّىٰ ﴾[النجم: ٥٤].
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن ٱلسَّمَآءِ مَآءً لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ ﴾؛ يعني المطرَ ليُطهِّرَكم به من الْجنَابَة والحدثِ.
﴿ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ ٱلشَّيْطَانِ ﴾؛ وَسْوَسَةَ الشيطانِ التي كان وَسْوَسَ إليكم بأنَّ عدُوَّكم قد غلبَ على الماءِ، وأنَّكم في مكانٍ تَسُوحُ أقدامُكم في الرملِ. ويقال: أرادَ بالرِّجْزِ الجنابةَ التي أصابَتهم بالاحتلامِ، فإنَّ الاحتلامَ إنَّما يكون من وَسْوَسَةِ الشيطانِ. وقرأ سعيدُ بن المسيِّب (لِيُظْهِرَكُمْ) بالظاء من أظْهَرَكم اللهُ. وقرأ ابنُ محيصن (رُجْزَ) بضمِّ الراء. وقرأ أبو العاليةِ (رجْسَ الشَّيْطَانِ) بالسين، والعربُ تُعَاقِبُ بين السِّين والزاي فتقولُ: بَزَقَ وبسَقَ، والسِّراط والزِّراط. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلِيَرْبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ ﴾؛ أي ولِيَشُدَّ على قلوبكم بالصَّبرِ، ويشجِّعَكم على القتال. وَقِيْلَ: معناهُ: وليَربطَ على قُلوبكم بالصَّبر والمطر. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَيُثَبِّتَ بِهِ ٱلأَقْدَامَ ﴾؛ أي ويُثبتَ بالمطرِ الأقدامَ حتى لا تسُوحَ في الرملِ. وَقِيْلَ: معناهُ: ويثَبتَ بالبصيرةِ وقوَّةِ القلب الأقدامَ؛ لأن الأقدامَ إنما تثبتُ في الحرب بقوَّة القلب.


الصفحة التالية
Icon