قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ ﴾؛ أي ومَن يجعل ظَهْرَهُ إليهم وقتَ القتالِ.
﴿ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ ﴾؛ إلا أنْ ينحرفَ ليُقاتِلَ في موضعٍ يراهُ أصلحَ في باب الْمُحَارَبَةِ، وليطلبَ غَرَّةً يطمعُ فيها من العدوِّ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَىٰ فِئَةٍ ﴾؛ أي إلا أنْ يقصدَ الانضمامَ إلى جماعةٍ يَمنعونَهُ من العدوِّ، يعني إذا كَثُرَ العدوُّ للمؤمنين فيه يلجأون، فيحارِبون العدوَّ بعد ذلك معهم؛ كان لهم تركُ القتالِ عند ذلك، ومن ولاَّهُم الدُّبُرَ على سبيلِ الانْهِزامِ من غيرِ هذين الوجهَين.
﴿ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ ﴾، فقدِ احتملَ غَضَباً من اللهِ.
﴿ وَمَأْوَاهُ ﴾؛ في الآخرةِ ﴿ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ ﴾، صارَ إليه. والتَّحَرُّفُ في اللغة: هو الزَّوَالُ من جهةِ الاستواءِ، والتَّحَيُّزُ: طلبُ حَيِّزٍ يَكْمُنُ فيه. واختلفَ العلماءُ هل الوعيدُ في هذه الآيةِ مقصورٌ على حرب بدرٍ أم هو عامٌ في جميعِ الأوقات؟ قال بعضهم: إنه خاصٌّ في حرب بدر؛ لأنه لم يكن يومئذٍ للمسلمين فيه سِواهُم، وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم حاضِراً في ذلك الحرب، وكان النصرُ موعوداً إليه يومئذٍ ومع حضُورهِ، وكان لا يعدُّ غيرهُ فئةً، وكان المنهزِمُ عن القتالِ يومئذ غيرَ متحيِّزٍ إلى فئةٍ، فأما اليومَ المنهزمُ عن الحرب يكون مُتَحيِّزاً إلى فئَةٍ أعظمَ من الْمُحاربين من المسلمين. وقال بعضُهم: إنه عامٌّ في جميعِ الأوقات، ولا يجوزُ الانْهزَامُ عن قتالِ المشركين مع قوَّة القتال، وإلى هذا ذهبَ ابنُ عباس، وذكرَ محمَّد بنُ الحسنِ في السِّيَرِ الكبير (أنَّ الْجَيْشَ إذا بَلَغُوا اثْنَى عَشَرَ ألْفاً فَلَيْسَ لَهُمْ أنْ يَفِرُّواْ مِنْ عَدُوِّهِمْ وَإنْ كَثُرَ الْعَدُوُّ). واحتَجَّ بما رُوي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قالَ:" خَيْرُ الأَصْحَاب أرْبَعَةٌ، وَخَيْرُ السَّرَايَا أرْبَعُمِائَةٍ، وَخَيْرُ الْجُيُوشِ أرْبَعَةُ آلاَفٍ، وَلَنْ يُغْلَبَ اثْنَا عَشَرَ مِنْ قِلَّةٍ ".