قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يٰأَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً ﴾؛ الآيةُ متَّصلةٌ بما قبلَها، فإنَّ معناهُ: نحن نقصُّ عليكَ أحسنَ القصص، إذ قالَ يوسفُ لأبيهِ. قرأ طلحة بن مصرف (يُوسِفُ) بكسرِ السين، ثم قرأ ابنُ عبَّاس (يَا أبَتَ) بفتح التاء في جميعِ القرآن، وأصلهُ على هذا يا أبَتَا، ثم حُذفت الألف، وأبقى فتحةً دلالةً عليها، قال رُؤبة: تَقُولُ بنْتِي قَدْ أنَى أنَاكَا يَا أبَتَا عَلَّكَ أَوْ عَسَاكَاوقرأ الباقون (يَا أبَتِ) بالكسرة على الإضافةِ يقدِّرُها بعدَها، وَقِيْلَ: كُسرت؛ لأنَّها أُجريت مجرَى التأنيثِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً ﴾ قال المفسِّرون: رأى يوسفُ عليه السلام هَذِهِ الرُّؤيا وهو ابنُ اثنى عشرَ سنةً، قال ابنُ عبَّاس: (وذلِكَ أنَّهُ قَالَ لأَبيهِ: يَا أبَتِ إنِّي رَأيْتُ فِي الْمَنَامِ أحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً نَزَلَتْ مِنْ أمَاكِنِهَا فَسَجَدَتْ لِي، وَرَأيْتُ ﴿ وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ ﴾؛ نَزَلاَ مِنْ أمَاكِنِهمَا فَسَجَدَا لِي، وأرَادَ بذلِكَ سَجْدَةَ التَّحِيَّةِ وَالْعِبَادَةِ للهِ عَزَّ وَجَلَّ، كَمَا يَقُومُ الْمَلاَئِكَةُ بالسُّجُودِ لآدَمَ عليه السلام). قال: (وَكَانَتِ الرُّؤْيَا لَيْلَةَ الْقَدْرِ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، وَكَانَ تَأْويلُ رُؤيَاهُ عِنْدَ يَعْقوبَ: أنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ هُوَ فِي حَالَتِهِ، وَأنَّ أُمَّ يُوسُفَ وَهِيَ رَاحِيلُ كَانَتْ قَدْ مَاتَتْ، وَأنَّ الأَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً إخْوَةُ يُوسُفَ وَكَانُواْ أحَدَ عَشَرَ أخاً، وإنَّهُمْ كُلُّهُمْ سَيَخْضَعُونَ لِيُوسُفَ). وَإنَّمَا تَأَوَّلَهَا يَعْقُوبُ عَلَى ذلِكَ؛ لأنَّهُ لاَ شَيْءَ أضْوَأُ مِنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَيَهْتَدِي بضَوْئِهِمَا أهْلُ الأَرْضِ، ثُمَّ لاَ شَيْءَ بَعْدَهُمَا أضْوَأُ مِنَ الْكَوَاكِب، فَدَلَّتْ رُؤْيَاهُ عَلَى أنَّ الَّذِي يَخْضَعُونَ لَهُ أئِمَّةُ الْهُدَى الَّذِينَ يَهْتَدِي النَّاسُ بهِمْ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ﴾؛ ثانياً ليس بتكرارٍ؛ لأنه أرادَ بالرُّؤية الثانية رؤيةَ سُجودِهم له، وإنما حُملت الآية على الرؤيا لا على رؤيةِ العين؛ لأنا نعلمُ أن الكواكبَ لا تسجدُ حقيقةً للآدميِّين، ولهذا قال يعقوبُ: ﴿ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَىٰ إِخْوَتِكَ ﴾.
وعن ابنُ عبَّاس أنَّهُ قَالَ: (لَمَا قَصَّ يُوسُفُ رُؤْيَاهُ عَلَى أبيهِ نَهَرَهُ وَزَجَرَهُ لِئَلاَّ يَفْطَنَ إخْوَتُهُ، وَقَالَ لَهُ فِي السِّرِّ: إذا رَأيْتَ رُؤْيَا بَعْدَهَا لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إخْوَتِكَ). فذلكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالَ يٰبُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَىٰ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً ﴾؛ لأن رؤيا الأنبياء وحيٌ، يعلم يعقوب أن الإخوة إذا سمعوا بها حسَدوهُ فأمرَهُ بالكتمان، وإنما كان قَصَّهَا على يعقوبَ فقط، وهذا القولُ أقربُ إلى ظاهرِ الآية، أي لا تُخبرهُم بذلك لئَلاَّ يحمِلُهم الحسدُ إلى قصدِكَ بسوءٍ، ومن الخضوعِ له على إنزال التثريب عليه والاحتيالِ لهلاكه، والكَيْدُ: هو طلبُ الشرِّ بالإنسان على جهةِ الغَيْظِ عليه. اختُلِفَ فيما عناهُ فيه هذه اللامِ التي في قولهِ تعالى: ﴿ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً ﴾ قال بعضُهم: معناهُ: فيَكِيدُوكَ واللامُ صِلَةٌ كقولهِ تعالى:﴿ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ ﴾[الأعراف: ١٥٤]، وقال بعضُهم: هو مثلُ قولِهم: نصَحتُكَ ونَصحتُ لكَ وأشباههِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ ٱلشَّيْطَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴾؛ أي إنَّ الشيطان عدوٌّ ظاهرُ العدوان لبني آدمَ، فلا تذكُرْ رؤياكَ لإخوتِكَ؛ لئلا يحملُهم الشيطان على الحسَدِ وإنزال الضُّرِّ بكَ. وهذا أصلٌ في جوازِ تركِ إظهار النِّعمة عند مَن يُخشى حسدهُ وكَيدهُ، وإنْ كان الله تعالى: قال:﴿ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ﴾[الضحى: ١١]، وعن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قالَ:" اسْتَعِينُواْ عَلَى قَضَاءِ حَوَائِجِكُمْ بالْكِتْمَانِ، فَإنَّ كُلَّ ذِي نِعْمَةٍ مَحْسُودٌ ".