قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قُلِ ٱللَّهُمَّ مَالِكَ ٱلْمُلْكِ تُؤْتِي ٱلْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ ٱلْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ ﴾.
قال عليٌّ رضي الله عنه قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:" لَمَّا أرَادَ اللهُ تَعَالَى أنْ يُنَزِّلَ الْفَاتِحَةَ؛ وَآيَةَ الْكُرْسِيِّ؛ وَشَهِدَ اللهُ؛ وَقُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ، تَعَلَّقْنَ بالْعَرْشِ وَقُلْنَ: تُهْبطُنَا دَارَ الذُّنُوب وَإلَى مَنْ يَعْصِيْكَ؟! فَقَالَ اللهُ تَعَالَى: وَعِزَّتِي وَجَلاَلِي؛ مَا مِنْ عَبْدٍ قَرَأكُنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ مَكْتُوبَةٍ إلاَّ أسْكَنْتُهُ حَضْرَةَ الْعَرْشِ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ، وَإلاَّ نَظَرْتُ إلَيْهِ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعِيْنَ نَظْرَةً، وَإلاَّ قَضَيْتُ لَهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعِيْنَ حَاجَةً، أدْنَاهَا الْمَغْفِرَةَ، وَأعَذْتُهُ مِنْ كُلِّ عَدُوٍّ وَنَصَرْتُهُ عَلَيْهِ، وَلاَ يَمْنَعُهُ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ إلاَّ أنْ يَمُوتَ "ومعنى الآيةِ: قال ابنُ عبَّاس: (لَمَّا فَتَحَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ وَوَعَدَ أمَّتَهُ مُلْكَ فَارسَ وَالرُّومَ، قَالَ الْمُنَافِقُونَ وَالْيَهُودُ: هَيْهَاتَ، مِنْ أيْنَ لِمُحَمَّدٍ مِلْكُ فَارسَ وَالرُّومَ، هُمْ أعَزُّ وَأمْنَعُ مِنْ ذلِكَ، ألَمْ يَكْفِ مُحَمَّداً مَكَّةَ وَالْمَدِيْنَةَ حَتَّى أطْمَعَ نَفْسَهُ فِي مُلْكِ فَارسَ وَالرُّومِ). ويقالُ في وجه اتِّصال هذه الآية بما قبلَها: إنَّ اليهودَ قالواُ: لا نتبعُكَ؛ فإنَّ النبوَّة والملكَ لم يزل في أسلافِنا بني إسرائيل، فَأنزلَ اللهُ هذه الآيةَ. ومعناها: قُلْ يا مُحَمَّدُ: يا اللهُ يَا مَالِكَ الْمُلْكِ. وإنَّما زيدت الميمُ لأنَّها بدلٌ عن (يَا) التي هي حرفُ النداءِ، ألا تَرَى أنه لا يجوزُ في الإخبار إدخالُ الميم؛ لا يقالُ: غَفَرَ اللَّهُمَّ لي كما يقالُ في النداء اللَّهُمَّ اغْفِرْ ((لي))؛ ولهذا لا يجوزُ الجمع بين ((ما كان)) الميم في آخرهِ والنداء في أوَّله، لأنه لا يجوزُ الجمع بين العِوَضِ والمعوَّض، وإنَّما شُدِّدت الميمُ لأنَّها عِوَضٌ عن حرفين، فإنَّ النداءَ حرفان، وهذا اختيارُ سيبويه. وقال الفرَّاء: (مَعْنَى قَوْلِ الْقَائِلِ: اللَّهُمَّ يَا اللهُ أمَّ بخَيْرٍ؛ أي أقْصُدْ. طُرِحَتْ حَرَكَةُ الْهَمْزَةِ عَلَى الْهَاءِ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مَالِكَ ٱلْمُلْكِ ﴾ أي مالِكَ كلِّ مَلِكٍ، هذه صفةٌ لا يستحقُّها أحدٌ غيرُ الله، وقيل: معناه: مالِكَ أمرِ الدنيا والآخرة. وقال مجاهدُ: (أرَادَ بالْمُلْكِ هُنَا النُّبُوَّةَ)، وقيل: إنَّ هذا لا يصلُح لأنَّه قالَ: ﴿ وَتَنزِعُ ٱلْمُلْكَ ﴾ واللهُ تعالى لا يَنْزِعُ النبوَّةَ من أحدٍ؛ لأنه لا يريدُ لأداءِ الرسَالة إلاّ مَن يعلمُ أنه يؤدِّي الرسالةَ على الوجه، وأنَّهُ لا يغيِّرُ ولا يبدِّلُ، لأنه عالِمٌ بعواقب الأمور. ومعنى: ﴿ تُؤْتِي ٱلْمُلْكَ مَن تَشَآءُ ﴾ أي تُعطي الملكَ من تشاء أنْ تعطيه. وقال الكلبيُّ: ﴿ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ ﴾ يَعْنِي مُحَمَّداً وَأصْحَابَهُ.
﴿ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ ﴾ أيْ مِنْ أبي جَهْلٍ وَأصْحَابهِ). وقيل معناه: ﴿ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ ﴾ يعني العربَ.
﴿ وَتَنْزِعَ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ ﴾ يعني الرُّوم والعجمَ وسائر الأممِ. وقال بعضُهم: ﴿ تُؤْتِي الْمُلْكَ ﴾ أي العافيةَ، قال صلى الله عليه وسلم:" مَنْ أصْبَحَ آمِناً فِي سِرْبهِ؛ مُعَافًى فِي بَدَنِهِ؛ عَنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأنَّمَا حِيْزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بحَذافِيْرِهَا "وقيل: هو القناعةُ. وقال ابنُ المباركِ: (دَخَلْتُ عَلَى سُفْيَانَ الثَّوْريِّ بَمَكَّةَ فَوَجَدْتُهُ مَرِيْضاً شَاربَ الدَّوَاءِ وَبهِ غَمٌّ شَدِيْدٌ، فَسَلَّمْتُ عَلِيْهِ وَقُلْتُ: مَا لَكَ يَا أبَا عَبْدِاللهِ؟ فَقَالَ: أَنَا مَريْضٌ شَارِبُ الدَّوَاءِ وَبي غَمٌّ شَدِيْدٌ، فَقُلْتُ: أعِنْدَكُ بَصَلَةٌ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَقُلْتُ: ائْتِنِي بهَا، فَكَسَرْتُهَا ثُمَّ قُلْتُ لَهُ: شُمَّهَا؛ فَشَمَّهَا فَعَطَسَ عِنْدَ ذلِكَ، فَقَالَ: الْحَمْدُ للهِ رَب الْعَالَمِيْنَ، فَسَكَنَ مَا بهِ، فَقَالَ: يَا ابْنَ الْمُبَارَكِ؛ أنْتَ فَقِيهٌ وَطَبِيْبٌ! فَقُلْتُ: مُجَرِّبٌ يَا أبَا عَبْدِاللهِ. قَالَ: فَلَمَّا رَأَيْتُهُ سَكَنَ مَا بهِ وَطَابَتْ نَفْسُهُ، قُلْتُ: إنِّي أُرِيْدُ ((أنْ)) أسأَلَكَ حَدِيثاً، قَالَ: سَلْ مَا شِئْتَ، قُلْتُ: أخْبرْنِي مَنِ النَّاسُ؟ قَالَ: الْفُقَهَاءُ، قُلْتُ: فَمَنِ الْمُلُوكُ؟ قَالَ: الزُّهَّادُ، وَقُلْتُ: فَمَنِ الأَشْرَافُ؟ قَالَ: الأَتْقِيَاءُ، قُلْتُ: فَمَنِ السَّفَلَةُ؟ قَالَ: الظَّلَمَةُ. ثُمَّ وَدَّعْتُهُ فَخَرَجْتُ). وقيل: معنى: ﴿ تُؤْتِي ٱلْمُلْكَ مَن تَشَآءُ ﴾ يعني مُلْكَ المعرفةِ كما أُوتِيَ سحرةُ فرعون.
﴿ وَتَنزِعُ ٱلْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَآءُ ﴾ كما نُزع من إبليسَ وبلعَامَ. وقيل: مَعْنَى الْمُلْكِ: الْجَنَّةُ كما أُوتِيَ الْمُؤْمِنُونَ. قال اللهُ تعالى:﴿ وَمُلْكاً كَبِيراً ﴾[الإنسان: ٢٠].
﴿ وَتَنزِعُ ٱلْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَآءُ ﴾ كما نُزع من الكفَّار. وقيل: أراد بالْمُلْكِ توفيقَ الإيمانِ والطاعة. وقيلَ: هو قيامُ الليل. وقال الشَلَبيُّ: (هُوَ الاسْتِغْنَاءُ مِنَ الْمُكَوِّنِ عَنِ الْكَوْنَيْنِ). قوله تعالى: ﴿ تُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ ﴾ قال عطاءُ: ﴿ تُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ ﴾ يَعْنِي الْمُهَاجِرِيْنَ وَالأَنْصَار.
﴿ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ ﴾ يَعْنِي فَارسَ وَالرُّومَ. وقيل: ﴿ تُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ ﴾ مُحَمَّداً وأصحابَه حتى دخلوا مكَّة بعشرةِ آلافٍ ظاهرين عليها ﴿ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ ﴾ أبَا جهلٍ وأصحابَه حتى جُزَّتْ رؤوسُهم وألقوا في القُلَيب. وقيل: ﴿ تُعِزُّ مَن تَشَآءُ ﴾ بالإيمانِ والمعرفة.
﴿ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ ﴾ بالكُفر والنكدة، وقيل: ﴿ تُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ ﴾ بالطاعةِ.
﴿ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ ﴾ بالمعصية، وقيل: ﴿ تُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ ﴾ بالتوفيق والمعرفةِ.
﴿ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ ﴾ بالحرمان والخُذلان، وقيل: ﴿ تُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ ﴾ بالتمليك والتشديد.
﴿ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ ﴾ بسلب الملك وتسليطِ العدُوِّ عليه، وقيل: ﴿ تُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ ﴾ بقهرِ النفس ومخالفة الهوى.
﴿ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ ﴾ من أتْباع الهوى، وقيل: ﴿ تُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ ﴾ بأن يقهرَ الشيطان.
﴿ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ ﴾ بأن يقهَرَهُ الشيطان، وقيل: ﴿ تُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ ﴾ بالطاعة والرضا.
﴿ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ ﴾ بالحرصِ والطمع. قال بعضُهم: الْحُرُّ عَبْدٌ مَا طَمَعْ، وَالْعَبْدُ حُرٌّ مَا قَنَعْ. وقال الشافعيُّ رَحِمَهُ اللهُ: ألاَ يَا نَفْسُ إنْ تَرْضَي بفَوْتٍ   فَأَنْتِ عَزِيْزَةُ أبَداً غَنِيَّهْوقال آخرُ: أفَادَ مِنِّي الْقَنَاعَةَ كُلَّ عِزٍّ   وَهَلْ عِزٌّ أعَزُّ مِنَ الْقَنَاعَهْفَصَيِّرْهَا لِنَفْسِكَ رأْسَ مَالٍ   وَصَيِّرْ بَعْدَهَا التَّقْوَى بضَاعَهْوقال بعضُهم: معناهُ: ﴿ تُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ ﴾ بالاخلاصِ.
﴿ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ ﴾ بالريَاء، وقيل: ﴿ تُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ ﴾ بالجنَّة والرؤية.
﴿ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ ﴾ بالنار والحجاب. وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ بِيَدِكَ ٱلْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾؛ أي بيدِكَ الخيرُ والشرُّ، فاكتفى بذكرِ الخير لأنه الأفضلُ ولأنه إنَّما قال ذلكَ على وجه الرَّغبة، والرغبةُ إنَّما تقعُ في الخير لا في الشرِّ، وفي ذكرِ أحد الأمرين دليلٌ على الآخر كما قال تعالى:﴿ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ ٱلْحَرَّ ﴾[النحل: ٨١] ولم يذكر البردَ؛ والمعنى تقيكُم الحرَّ والبردَ، وقيل: معنى الآيةِ: ﴿ بِيَدِكَ الْخَيْرُ ﴾ أي النصرُ والفتح والفيء والغنيمةُ وغير ذلك من خيرِ الدُّنيا والآخرة. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ أي من الإعطاء والنَّزع والعزِّ والذُّل.


الصفحة التالية
Icon