قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قُمِ ٱلَّيلَ إِلاَّ قَلِيلاً * نِّصْفَهُ أَوِ ٱنقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً ﴾؛ أي قُمْ للصَّلاةِ؛ أي صَلِّ أكثرَ الليلِ أو قُمْ نصفَ الليلِ أو انقُصْ من النِّصفِ قليلاً، أو انقُصْ من النصفِ.
﴿ أَوْ زِدْ عَلَيْهِ ﴾؛ خيَّرَهُ اللهُ تعالى في قيام الليل في هذه السَّاعات. قال المفسِّرون: معنى قولهِ ﴿ نِّصْفَهُ أَوِ ٱنقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً ﴾ أي انقُصْ مِن النصفِ إلى الثُّلث أو زدْ على النِّصف إلى الثُّلُثَينِ، جعل له سِعَةً في قيامِ الليل وخيَّرَهُ في هذه السَّاعات، قال الحسنُ: ((فَرَضَ اللهُ عَلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَلَى أصْحَابهِ وَهُمْ بمَكَّةَ أنْ يَقُومُوا بثُلُثِ اللَّيْلِ وَمَا زَادَ)). سُئِلَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا عَنْ قِيَامِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَت: ((أمَا تَقْرَأُونَ هَذِهِ السُورَةَ ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ ﴾؟ قَالُواْ: بَلَى، قَالَتْ: فَإنَّ اللهَ فَرَضَ قِيَامَ اللَّيْلِ فِي أوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى انْتَفَخَتْ قَدَمَاهُ، وَأمْسَكَ اللهُ خَاتِمَةَ السُّورَةِ اثْنَى عَشَرَ شَهْراً، ثُمَّ تَرَكَ التَّخْفِيفَ فِي آخِرِ السُّورَةِ بَعْدَ أنْ قَامَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وَأصْحَابُهُ حَوْلاً، فَصَارَ قِيَامُ اللَّيْلِ تَطَوُّعاً بَعْدَ ذلِكَ)). وَكَانَ قِيَامُهُ فَرْضاً قَبْلَ أن فَرَضَ " اللهُ " الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، ولا خلافَ بين المسلمين في أنَّ قيامَ الليلِ مندوبٌ إليه مرغَّبٌ فيه، قال صلى الله عليه وسلم:" أحَبُّ الصَّلاَةِ إلَى اللهِ تَعَالَى صَلاَةُ دَاوُدَ عليه السلام، كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ وَيَنَامُ سُدُسَهُ. وَأحَبُّ الصِّيَامِ إلَى اللهِ تَعَالَى صِيَامُ دَاوُدَ، كَانَ يَصُومُ يَوْماً وَيُفْطِرُ يَوْماً ". ورُوي: (أنَّ هَذِهِ الآيَاتِ لَمَّا نَزَلَتْ قَامَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وَأصْحَابُهُ، وَكَانَ الرَّجُلُ مِنَ الصَّحَابَةِ لاَ يَدْري مَتَى ثُلُثُ اللَّيْلِ وَمَتَى النِّصْفُ وَمَتَى الثُّلُثَانِ، فَكَانَ يَقُومُ حَتَّى يُصْبحَ مَخَافَةَ أنْ لاَ يَحْفَظَ الْقَدْرَ الْوَاجِبَ، حَتَّى شُقَّ عَلَيْهِمْ ذلِكَ وَانْتَفَخَتْ أقْدَامُهُمْ وَتَغَيَّرَتْ ألْوَانُهُمْ، فَرَحِمَهُمُ اللهُ تَعَالَى وَخَفَّفَ عَنْهُمْ، وَنُسِخَ بقَوْلِهِ﴿ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَىٰ ﴾[المزمل: ٢٠]، وَكَانَ بَيْنَ أوَّلِ السُّورَةِ وَآخِرِهَا سَنَةٌ). وقوله تعالى: ﴿ وَرَتِّلِ ٱلْقُرْآنَ تَرْتِيلاً ﴾؛ أي بَيِّنْهُ بَياناً واقرَأهُ قراءةً بَيِّنَةً. والتَّرتِيلُ: ترتيبُ الحروفِ على حقِّها في تلاوَتِها بتَبيُّنٍ وتثَبُّتٍ من غيرِ عجَلَةٍ، وكذلك التَّرَسُّلُ. والمعنى: تفَهَّم معانيَهُ، وطالِبْ نفسكَ بالقيامِ بأحكامهِ. وأما الْحَدْرُ فهو الإسراعُ في القراءةِ، وعن ابنِ عمرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قالِ: (كَانَتْ قِرَاءَةُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَرْتِيلاً) أي تَرَسُّلاً. وقال أبو حمزةَ: ((قُلْتُ لابْنِ عَبَّاسٍ: إنِّي رَجُلٌ فِي قِرَاءَتِي وَكَلاَمِي عَجَلَةٌ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَئِنْ أقْرَأ الْبَقَرَةَ وَأُرَتِّلْهَا أحَبَّ إلَيَّ مِنْ أنْ أقْرَأ الْقُرْآنَ كُلَّهُ هَدْرَمَةً)).


الصفحة التالية
Icon