قوله: ﴿ لَّيْسَ عَلَى ٱلأَعْمَىٰ حَرَجٌ ﴾ الخ، اختلف العلماء في سبب نزول هذه الآية فقال ابن عباس: لما نزل:﴿ يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَٰلَكُمْ بَيْنَكُمْ بِٱلْبَٰطِلِ ﴾[النساء: ٢٩] تحرج المسلمون عن مؤاكلة المرضى والزمنى والعمي والعرج وقالوا: الطعام أفضل الأموال، وقد نهانا الله تعالى عن أكل المال بالباطل، والأعمى لا يبصر موضع الطعام الطيب، والأعرج لا يتمكن من الجلوس، ولا يستطيع المزاحمة على الطعام، والمريض يضعف عن التناول، ولا يستوفي حقه من الطعام، فنزلت هذه الآية، وعلى هذا فتكون ﴿ عَلَى ﴾ بمعنى في، أي ليس عليكم في مؤاكلة الأعمى والأعرج والمريض حرج، وقيل سبب نزولها: أن هؤلاء الجماعة، كانوا يتحرجون عن مؤاطلة الأصحاء، خوف أن يستقذروهم، وعلى هذا فعلى على بابها، وقيل إن الآية نزلت في الجهاد، والمعنى ليس على هؤلاء حرج في التخلف عن الجهاد، وقيل كانت الصحابة إذا خرجوا للغزو، دفعوا مفاتيح بيوتهم لهؤلاء الجماعة ويقولون لهم: قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في بيوتنا، فكانوا يتحرجون من ذلك ويقولون: لا ندخلها وأصحابها غائبون، مخافة أن لا يكون إذنهم عن طيب نفس، فنزلت الآية رخصة لهم، وكل صحيح. إذا علمت ذلك، فنفي الحرج عن هؤلاء في أمور مخصوصة، وليس ذلك على العموم، فإن ما كلف به الصحيح كلف به غيره. قوله: (مقابليهم) أي السالمين من هذه الثلاثة. قوله: ﴿ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ ﴾ معطوف على ﴿ ٱلأَعْمَىٰ ﴾ والمعنى ليس عليكم حرج في الأكل من بيوتكم. قوله: ﴿ مِن بُيُوتِكُمْ ﴾ بضم الباء وكسرها، قراءتان سبعيتان هنا وفي جميع ما يأتي. قوله: (أي بيوت أولادكم) أي ذكوراً أو إناثاً، لأن بويت الولد كبيته، لقوله عليه الصلاة والسلام:" أنت ومالك لأبيك "وقوله عليه الصلاة والسلام:" إن أطيب ما يأكل المرء من كسبه، وإن ولده من كسبه "الحامل للمفسر على هذا التقدير، عدم توهم حرمة الأكل من بيت نفسه، وعدم ذكر الأولاد صراحة، فدل ذلك على أن المراد ببيوتكم بيوت أولادكم. قوله: ﴿ أَوْ بُيُوتِ ءَابَآئِكُمْ ﴾ أي وإن علوا. قوله: ﴿ إِخْوَٰنِكُمْ ﴾ جمع أخ ويجمع على إخوة وهو المراد هنا، لأن المراد بهم أخوة النسب، وهم من شاركوك في رحم أو صلب. قوله: ﴿ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَٰتِكُمْ ﴾ جمع أخت أي مما تملكه، أو من ملك زوجها إن كان صديقاً له أو مأذونة فيه، وكذا يقال فيما يأتي. قوله: ﴿ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ ﴾ بالتخفيف، وقرئ شذوذاً بضم الميم وتشديد اللام مكسورة، أي ملككم غيركم. قوله: ﴿ مَّفَاتِحهُ ﴾ جمع مفتح بكسر الميم في قراءة العامة، وقرئ مفاتيحه بالياء، ومفتاحه بالإفراد. قوله: (أي خزنتموه لغيركم) أي حفظتموه بأن تكونوا وكلاء عليه لقول ابن عباس: عنى بذلك وكيل الرجل وقيمه على ضيعته وماشيته، فلا بأس عليه أن يأكل من ثمرته وثمرة ضيعته، ويشرب من لبن ماشيته، ولا يحمل ولا يدخرها. قوله: (وهو من صدقكم في مودته) أي من مكان خالصاً لكم في المحبة. قوله: (من بيوت من ذكر) أي الأصناف الأحد عشر، وخصوا بالذكر لأن الشأن التبسط بينهم. قوله: (أي إذا علم رضاهم به) أي ولو بقرينة، وهذا أحد قولين للعلماء، وقيل يجوز الأكل من بيوت من ذكر، ولو لم يعلم رضاهم به، لأن القرابة التي بينهم تقتضي العطف والسماح. فإن قلت: على الأول حيث كان مشروطاً بعلم رضاهم، فلا فرق بينهم وبين غيرهم من الأجانب. وأجيب: بأن هؤلاء يكفي فيهم أدنى قرينة، بل الشرط فيهم أن لا يعلم عدم الرضا، بخلاف غيرهم من الأجانب، فلا بد من علم الرضا بصريح الإذن أو قرينة. قوله: (مجتمعين) أشار بذلك إلى أن قوله: ﴿ جَمِيعاً ﴾ حال من فاعل ﴿ تَأْكُلُواْ ﴾، وكذا قوله: ﴿ أَشْتَاتاً ﴾.
قوله: (جمع شت) هو مصدر بمعنى التفرق. قوله: (نزل فيمن تحرج) أي فهو كلام مستأنف، بيان لحكم آخر، وهم فريق من المؤمنين يقال لهم بنو ليث بن عمرو من كنانة، كان الرجل منهم لا يأكل، ويمكث يومه حتى يجد ضيفاً يأكل معه، فإن لم يجد من يؤاكله لم يأكل شيئاً، وقيل نزلت في قوم تحرجوا عن الاجتماع على الطعام، لا ختلاف الآكلين في كثرة الأكل وقلته. قوله: ﴿ فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً ﴾ (لكم) أي مساكنكم. قوله: ﴿ تَحِيَّةً ﴾ منصوب على المصدر من معنى فسلموا، من باب جلست قعوداً وقمت وقوفاً. قوله: ﴿ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ ﴾ أي ثابتة بأمره. قوله: ﴿ مُبَٰرَكَةً ﴾ أي لأنه يرجى بها زيادة الخير والثواب. قوله: (ولكي تفهموا ذلك) أي معالم دينكم فهذا أمر إرشاد وأدب للعباد. قوله: ﴿ إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ﴾ الخ، المقصود من هذه الآية، مدح المؤمنين الخالصين، والتعرض بذم المنافقين، و ﴿ إِنَّمَا ﴾ أداة حصر، و ﴿ ٱلْمُؤْمِنُونَ ﴾ مبتدأ، وقوله: ﴿ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ خبره. قوله: ﴿ عَلَىٰ أَمْرٍ جَامِعٍ ﴾ إسناد الجمع للأمر مجاز عقلي، وحقه أن يسند للمؤمنين. قوله: (كخطبة الجمعة) أي والأعياد والحروب والحديث وغير ذلك، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صعد المنبر يوم الجمعة، وأراد الرجل أن يخرج من المسجد لحاجة أو عذر، لم يخرج حتى يقوم تجاه النبي صلى الله عليه وسلم بحيث يراه، فيعرف أنه إنما قام ليستأذن، فيأذن لمن يشاء منهم. قوله: ﴿ حَتَّىٰ يَسْتَأْذِنُوهُ ﴾ أي يطلبوا منه الإذن فيأذن لهمه. قوله: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ ﴾ الخ، هذا توكيد لما تقدم، ذكر تفخيماً وتعظيماً للاستئذان. قوله: ﴿ فَإِذَا ٱسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ ﴾ أي كما وقد لسيدنا عمر بن الخطاب حين خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، حيث استأذن الرسول في الرجوع إلى أهله، فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ارجع فلست بمنافق، وكتخلف عثمان لتجهيز زوجته بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ماتت، والنبي صلى الله عليه وسلم متجهز لغزوة بدر. قوله: ﴿ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ ﴾ في ذلك تفويض الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه الواسطة العظمى بين الخلق وربهم، فإذا أذن لأحد، علم من ذلك أن رضا الله في إذنه، قال العارف: وخصك بالهدى في كل أمر   فلست تشاء إلا ما يشاءقوله: ﴿ وَٱسْتَغْفِرْ لَهُمُ ٱللَّهَ ﴾ أي ليعوّضهم بدل ما فاتهم من مجالستك، من أجل العذر الذي نزل بهم


الصفحة التالية
Icon