قوله: (وحي إلهام أو منام) هذان قولان للمفسرين، وقيل كان بملك تمثل لها، واعترض بأنها ليست بنبية، وأجيب: بأن الممنوع نزول الملائكة على غير الأنبياء بالشرائع، وأما بغيرها فجائز، كنزول الملك على البار أمه التي تقدمت قصته في البقرة. قوله: ﴿ إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ ﴾ أي واسمها يوحانذ بضم الياء وكسر النون وبالذال المعجمة، وقيل: لوخا بنت هاند بن لاوى بن يعقوب، وقد اشتملت هذه الآية على أمرين وهما ﴿ أَرْضِعِيهِ ﴾ و ﴿ أَلْقِيهِ ﴾، ونهيين وهما ﴿ لاَ تَخَافِي ﴾ و ﴿ لاَ تَحْزَنِيۤ ﴾، وخبرين وبشارتين وهما ﴿ إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ ﴾ و ﴿ وَجَاعِلُوهُ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ ﴾ فيهما خبران تضمنا بشارتين. قوله: ﴿ أَنْ أَرْضِعِيهِ ﴾ يصح أن تكون مفسرة أو مصدرية. قوله: ﴿ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ ﴾ أي من الذبح. قوله: ﴿ وَلاَ تَخَافِي ﴾ (غرقه) دفع بذلك التناقص بين إثبات الخوف ونفيه، فالمثبت هو خوف الذبح، والمنفي هو خوف الغرق. قوله: ﴿ إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ ﴾ أي لتأمني عليه، وهو علة للنهي عن الخوف والحزن. قوله: (فوضعته في تابوت) أي وكان طوله خمسة أشبار وعرضه كذلك، وجعلت المفتاح في التابوت. قوله: (مطلي بالقار) أي الزفت. قوله: (ممهد) أي مفرش له فيه، ففرشت فيه قطناً محلوجاً. قوله: (وأغلقته) أي وقيرت رأسه. وحاصله: أن أم موسى لما تقاربت ولادتها، وكانت قابلة من القوابل التي وكلهن فرعون بحبالى بني إسرائيل، مصافية لأم موسى ومصاحبة لها، فلما ضربها الطلق، أرسلت إليها قالت: قد نزل بي ما نزل، فليسعفني حبك إياي اليوم فعالجتها، فلما أن وقع موسى بالأرض، هالها نور بين عيني موسى، فارتعش كل مفصل فيها، ودخل حب موسى قلبها، ثم قالت القابلة لها: يا هذه ما جئت إليك حين دعوتني، إلا ومرادي قتل مولودك، ولكن وجدت لابنك هذا حباً، ما وجدت حب شيء مثل حبه، فاحفظي ابنك، فلما خرجت القابلة من عندها، أبصرها بعض العيون فجاءوا على بابها ليدخلوا على أم موسى، فقالت أخته: يا أماه هذا الحرس بالباب، فلفت موسى بخرقة وألقته في التنور وهو مسجور، وطاش عقلها فلم تعقل ما تصنع، قال: فدخلوا فإذا التنور مسجور، ورأوا أم موسى ولم يتغير لها لون ولم يظهر لها لبن، فقالوا: ما أدخل عليك القابلة؟ فقالت: هي مصافية لي، فدخلت علي زائرة. فخرجوا من عندها، فرجع لها عقلها فقالت لأخت موسى: فأين الصبي؟ فقالت لا أدري، فسمع بكاء الصبي من التنور، فانطلقت إليه وقد جعل الله عليه النار برداً وسلاماً فاحتملته، ثم إن أم موسى لما رأت إلحاح فرعون في طلب الولدان، خافت على ابنها، وقذف الله في نفسها أن تتخذ تابوتاً، ثم تقذف التابوت في النيل، فانطلقت إلى رجل نجار من قوم فرعون، فاشترت منه تابوتاً صغيراً، فقال النجار: ما تصنعين بهذا التابوت؟ فقالت: لي ابن أخبئه في التابوت، وكرهت الكذب ولم تقل أخشى عليه كيد فرعون، فلما اشترت التابوت وحملته وانطلقت به، انطلق النجار إلى الذباحين ليخبرهم بأمر أم موسى، فلما همّ بالكلام، أمسك الله لسانه فلم يطق الكلام، وجعل يشير بيده، فلم يدر الأمناء ما يقول، فأعياهم أمره، قال كبيرهم: اضربوه وأخرجوه، فلما انتهى النجار إلى موضعه، رد الله عليه لسانه فتكلم، فانطلق أيضاً يريد الأمناء، فأتاهم ليخبرهم، فأخذ لسانه وبصره، فلم يطق الكلام ولم يبصر شيئاً، فضربوه وأخرجوه، فبقي حيران، فجعل الله عليه إن رد لسانه وبصره، أن لا يدل عليه، وأن يكون معه ويحفظه حيثما كانوا، وعرف الله منه الصدق، فرد عليه لسانه وبصره، فخر لله ساجداً قال: يا رب دلني على هذا العبد الصالح، فدل الله عليه، فآمن به وصدقه. وقيل: لما حملت أم موسى به، كتمت أمرها عن جميع الناس، فلم يطلع على حبلها أحد من خلق الله، وذلك شيء ستره الله تعالى، لما أراد أن يمن به على بني إسرائيل، فلما كانت السنة التي ولد فيها، بعث فرعون القوابل إليهن، ففتشن النساء تفتيشاً، لم يفتشن قبل ذلك مثله، وحملت أم موسى. قلم يتغير لونها ولم تكبر بطنها، وكانت القوابل لا يتعرضن لها، فلما كانت الليلة التي ولد فيها، ولدته ولا رقيب لها ولا قابلة، ولم يطلع عليها أحد إلا أخته مريم، وأوحى الله إليها ﴿ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي ٱليَمِّ ﴾ وهو البحر ليلاً، وكان لفرعون يومئذ بنت، وكان بها برص شديد، لم يكن له ولد غيرها، وكانت من أكرم الناس عليه، وكان لها كل يوم ثلاث حاجات ترفعها إليه، وكان بها برص شديد، وكان فرعون قد جمع لها الأطباء والسحرة، فنظروا في أمرها فقالوا: أيها الملك لا تبرأ إلا من قبل البحر، فيوجد فيه شبه الإنسان، فيؤخذ من ريقه فيلطخ به برصها فتبرأ من ذلك، وذلك في يوم كذا، في شهر كذا، حين تشرق الشمس، فلما كان ذلك اليوم، غدا فرعون إلى مجلس له كان على شفي النيل، وكانت معه امرأته آسية بنت مزاحم، وأقبلت بنت فرعون في جواريها، حتى جلست على شاطئ النيل مع جواريها، تلاعبهن وتنضح الماء على وجوههن، إذ أقبل النبيل بالتابوت تضربه الأمواج، فقال فرعون: إن هذا لشيء في البحر قد تعلق بشجرة ائتوني به، فابتدروه بالسفن من كل ناحية حتى وضعوه بين يديه، فعالجوا فتح البابت فلم يقدروا عليه، وعالجوا كسره فلم يقدروا عليه، فدنت آسية فرأت في جوف التابوت نوراً لم يره غيرها، فعالجته ففتحت الباب، فإذا هي بصبي صغير في التابوت، وإذا النور بين عينيه، وقد جعل الله رزقه في إبهامه يمص منها لبناً، فألقى الله محبته في قلب آسية، وأحبه فرعون وعطف عليه، وأقبلت بنت فرعون، فلما أخرجوا الصبي من التابوت، عمدت إلى ما يسيل من ريقه، فلطخت به برصها، فبرئت في الحال بإذن الله تعالى، فقبلته وضمته إلى صدرها، فقال الغواة من قوم فرعون: أيها الملك، إنّا نظن أن ذلك المولود الذي تحذر منه من بني إسرائيل هو هذا، رمي به في البحر خوفاً منك، فهمّ فرعون بقلته فقالت أسية: ﴿ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَىٰ أَن يَنْفَعَنَا ﴾ أي فنصيب منه خيراً ﴿ أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً ﴾، وكانت آسية لا تلد، فاستوهبت موسى من فرعون فوهبه لها، وقال فرعون، أما أنا فلا حاجة لي فيه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو قال فرعون يومئذ قرة عين لي كما هو لك لهداه الله كما هداها، فقيل لآسية سميه: فقالت: سميته موسى، لأنّا وجدناه في الماء والشجر، لأن موهو الماء، وشا هو الشجر، فأصل موسى بالمهملة موشى بالمعجمة. قوله: ﴿ فَٱلْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ ﴾ عطف على ما قدره المفسر بقوله: (فأرضعته) الخ. قوله: (صبيحة الليل) أي وكان يوم الاثنين. قوله: (وفتح) أي فتحته آسية بعد أن عالجوه بالفتح والكسر فلم يقدروا. قوله: (في عاقبة الأمر) أشار بذلك إلى أن اللام للعاقبة والصيرورة لا للعلة، لأن علة التقاطهم أن يكون حبيباً وابناً، ففي الآية استعارة تبعية في متعلق معنى الحرف، يقدر تشبيه ترتب نحو العداوة والحزن، على نحو الالتقاط بترتب العلة الغائية في المحبة والتبني بجامع مطلق الترتب الأعم من الطرفين، فالترتيب الثاني متعلق معنى اللام، فقدر استعارة الترتيب الكلي المشبه به بالترتب الكلي المشبه، فسرى التشبيه لمعنى اللام الذي هو الترتب مع الجزئي، فاستعير لفظ اللام واستعمل في الترتب الجزئي، والعداوة والحزن قرينة، أفاده الملوي. قوله: (وفي قراءة) الخ، أي وهي سبعية أيضاً. قوله: (من حزنه) هو من باب ضرب ونصر. قوله: (فعوقبوا على يديه) أي إنه تربى على أيديهم، فهو أبلغ في إذلالهم. قوله: ﴿ وَقَالَتِ ٱمْرَأَةُ فِرْعَوْنَ ﴾ أي وهي آسة بنت مزاحم، وكانت من خيار النساء، قيل كانت من ذرية الريان بن الوليد الذي كان في زمن يوسف الصديق عليه السلام، وقيل من بنات الأنبياء من بني إسرائيل من سبط موسى عليه السلام، وقيل كانت عمته فقالت لفرعون وهي قاعدة إلى جنبه: هذا الولد أكبر من ابن سنه، وأنت تذبح ولدان هذه السنة فدعه يكون عندي، وقيل إنها قالت له: إنه أتى من أرض أخرى، وليس هو من بني إسرائيل. قوله: (هو) ﴿ قُرَّتُ عَيْنٍ ﴾ أشار المفسر إلى أنه خبر لمحذوف. قوله: ﴿ عَسَىٰ أَن يَنْفَعَنَا ﴾ الخ، أي لما رأت فيه من العلامات الدالة النجابة والبركة. قوله: (فأطاعوها) أي على عادة أمراء مصر، من كونهم يطيعون النساء فيما يقلنه. قوله: ﴿ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ﴾ حال من آل فرعون. قوله: ﴿ وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ ﴾ يصح ان يبقى أصبح على ظاهره إن ثبت أنه ألقته ليلاً أو يجعل بمعنى صار إن كانت ألقته نهاراً. قوله: ﴿ فَارِغاً ﴾ (مما سواه) أي من التفكير في غيره، لما ورد أنه أتاها الشيطان وقال: كرهت أن يقتل فرعون ابنك، فيكون لك أجره وثوابه، وتوليت أنت قتله فأغرقته في البحر، فحزنت لذلك وانحصرت فكرتها فيه ونيست ما أوحى به إليها. قوله: ﴿ لَتُبْدِي بِهِ ﴾ ضمنه معنى تصرح فعداه بالياء، ويصح أن يبقى على ظاهره، وتكون الباء زائدة أي تظهره. قوله: ﴿ لَوْلاۤ أَن رَّبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا ﴾ جوابها محذوف أي لأبدت به كما أشار له المفسر. قوله: (بوعد الله) أي المدلول عليه بقوله: ﴿ إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ ﴾ ألخ. قوله: ﴿ لأُخْتِهِ ﴾ أي شقيقته. قوله: (مريم) هو أحد أقوال، وقيل اسمها كلثمة وقل كلثوم. قوله: ﴿ عَن جُنُبٍ ﴾ حال إما من الفاعل أو من الضمير المجرور بالياء، أي أبصرته مستخفية كائنة عن جنب وأبصرته بعيداً منها. قوله: (اختلاساً) أي اختفاء. قوله: (وأنها ترقبه) أي تنظره.


الصفحة التالية
Icon