قوله: ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةُ ﴾ هذا شروع في بيان ما أجمل أولاً في قوله:﴿ إِلاَّ مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ ﴾[المائدة: ١] وذكر في هذه الجملة العظيمة أحد عشر كلها محرمة، منها عشرة مطعومة وواحد غير مطعوم، وهو قوله وأن تستسقموا بالأزلام. قوله: ﴿ ٱلْمَيْتَةُ ﴾ فيه رد على جاهلية العرب حيث قالوا كما حكى الله عنهم، وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا، وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء، وعلى المشركين حيث أحلّوا أكلها مطلقاً. قوله: (أي المسفوح) أي السائل. قوله: (كما في الأنعام) أي في قوله تعالى:﴿ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً ﴾[الأنعام: ١٤٥] الآية، وأما غير المسفوح كالكبد والطحال والدم الباقي في العروق فهو طاهر، ويجوز أكله. قوله: ﴿ وَلَحْمُ ٱلْخِنْزِيرِ ﴾ أي ولو ذكي وهو نجس كله، ما عدا الشعر إن جز، عند مالك، فهو طاهر ويجوز استعماله. قوله: ﴿ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِ ﴾ الإهلال رفع الصوت، والأظهر أن اللام بمعنى الباء، والباء بمعنى عند، والمعنى وما رفع الصوت عند ذكاته بغير الله، أي باسم غير الله، كما إذا قال باسم اللات أو العزى، قال تعالى:﴿ وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ ٱسْمُ ٱللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ﴾[الأنعام: ١٢١] فإن جمع بين اسم الله واسم غيره غلب اسم الله وتؤكل، لأنه يعلو ولا يعلى عليه، والموضوع أن ذلك وقع من كتابي، وأما من مسلم فهو مرتد لا تؤكل ذبيحته، وهذا مذهب مالك بن أنس، ومراد مالك بأهل الكتاب الذين تؤكل ذبيحتهم، إن لم يذكروا اسم غير الله عليه اليهود والنصارى، ولو غيروا وبدلوا. قوله: (بأن ذبح على اسم غيره) المناسب أن يقول بأن صرح عند ذبحها باسم غيره، ليندفع التكرار بين ما هنا وبين ما يأتي في قوله: ﴿ وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ ﴾.
قوله: ﴿ وَٱلْمُنْخَنِقَةُ ﴾ كانوا في الجاهلية يخنقون الشاة، حتى إذا ماتت أكلوها، فحرم الله ذلك. قوله: ﴿ وَٱلْمَوْقُوذَةُ ﴾ كانوا في الجاهلية يضربون الشاة بنحو العصا حتى تموت ويأكلونها. قوله: ﴿ وَٱلنَّطِيحَةُ ﴾ فعيلة بمعنى مفعولة. قوله: ﴿ وَمَآ أَكَلَ ٱلسَّبُعُ ﴾ كانوا في الجاهلية إذا جرح السبع شيئاً وأكل منه أكلوا ما بقي، والسبع اسم لكل ما يفترس من ذي الناب، كالأسد والذئب ونحوهما وقوله: (أي أدركتم فيه الروح) أي مع بقاء الحياة المستقرة، بحيث يتحرك بالاختيار أو يبصر بالاختيار، ولو نفذت مقاتله، وهذا مذهب الشافعي، ومذهب مالك لا بد من استقرار الحياة مع عدم إنفاذ المقاتل، فما أدرك بذكاة وهو مستقر الحياة، وكان قبل إنفاذ مقتله أكل، وإلا فلا يؤكل، ولو ثبتت له حياة مستقرة، والمقاتل هي: قطع النخاع، ونثر الدماغ، وفري الودج، وثقب المصران، ونثر الحشوة. وفي شق الودج قولان، والاستثناء راجع للمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة، وما أكل السبع وهو متصل على كلا المذهبين مع مراعاة الشرط المتقدم عند كل. قوله: ﴿ وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ ﴾ أي ذكر اسم الصنم على ذلك المذبوح، فإن فعل ذلك مسلم لولي، وقصد التقريب له كما يتقرب لله فهو مرتد لا تؤكل ذبيحته، وأما إن قصد أن الذبح لله وثوابه للولي فلا بأس بذلك، فإن نذر ذبيحته لولي ميت كالسيد البدوي مثلاً، فإن قصد انتفاعه بها كالحي فهو نذر باطل، وأما إن قصد أنها تذبح في محله من غير قصد فقراء ذلك المحل، فلا يسوقها لذلك المحل، بل يذبحها بأي محل شاء، قال مالك: سوق الهدايا لغير مكة ضلال، وأما إن قصد بسوقها ذلك المحل لزمه سوقها. قوله: (وهي الأصنام) سميت الأصنام نصباً، لأنها تنصب وترفع لتعظم وتعبد. قوله: (تطلبوا القسم) بالكسر ما قسم لكم من خير أو شر، وبالفتح أي تمييزه، لأن القسم بالفتح تمييز الأنصباء، وبالكسر الحظ والنصيب. قوله: (مع فتح اللام) راجع لكل منهما. قوله: (وكانت سبعة) أي وكانت أزلامهم سبعة قداح مستوية، مكتوب على واحد منها أمرني ربي، وعلى واحد منها نهاني ربي، وعلى واحد منكم، وعلى واحد من غيركم، وعلى واحد ملصق، وعلى واحد العقل، وواحد غفل، أي ليس عليه شيء، وكانوا في الجاهلية إذا أرادوا أمراً من سفر أو غيره، جاؤوا إلى هبل، وهو أعظم صنم بمكة، وكان في الكعبة، وأعطوا صاحب القداح مائة درهم، فإن خرج أمرني ربي فعلوا ذلك الأمر، وإن خرج نهاني ربي لم يفعلوا، وإذا كان ذلك لنسب، فإن خرج منكم، ألحقوا بهم، وإن خرج من غيركم لم يلحقوه، وإن خرج ملصق، كان على حاله، وإن اختلفوا في العقل وهو الدية، فمن خرج عليه العقل تحمله، وإن خرج الغفل فعلوا ثانياً حت يخرج المكتوب، فنهاهم الله عن ذلك. قوله: (عند سادن الكعبة) أي خادمها. قوله: (عليها أعلام) أي كتابة. قوله: (وكانوا يحكمونها) في نسخة يجيبونها أي يجيبون حكمها. قوله: ﴿ ذٰلِكُمْ فِسْقٌ ﴾ أي الاستقسام المذكور خروج عن طاعة الله. إن قلت: إن هذه بعينها هي القرعة الجائزة في الإسلام. أجيب بأن تحريم هذا إنما جاء من إحالتها للصنم وتفويض الأمر له، ولذا وقعت القرعة بحضرة ولي ميت مثلاً، وفوض الأمر له، لكان الحكم الحرمة، كالاستقسام بالأزلام، واسم الإشارة مبتدأ، وفسق خبر، وهو راجع إلى الاستقسام بالأزلام، واسم الإشارة مبتدأ، وفسق خبر، وهو راجع إلى الاستقسام بالأزلام، كما هو مروي عن ابن عباس، وقيل راجع إلى جميع ما تقدم، وكل صحيح. قوله: (ونزل يوم عرفة) أي والنبي قائم يخطب بها فأل في اليوم للعهد الحضوري، والمعنى اليوم الحاضر، وهو يوم عرفة، وكان يوم جمعة، وعاش النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزولها أحداً وثمانين يوماً. قوله: ﴿ يَئِسَ ﴾ اليأس ذد الرجاء، والمعنى انقطع طمع الكفار في إبطال دينكم لما شاهدوا من دخول الناس فيه أفواجاً، وذلك أن قبل الوداع حجة أبو بكر بالناس، وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم علياً خلفه ينادي: لا يحج بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان ففي حجة الوداع تفرد النبي وأصحابه بالحج، فحينئذ نزلت الآية المشرفة. قوله: (لما رأوا) علة لقوله يئس، وقوله: (بعد طمعهم) متعلق بيئس أيضاً. قوله: ﴿ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ ﴾ أي لا تخافوهم لا ظاهراً ولا باطناً. قوله: ﴿ وَٱخْشَوْنِ ﴾ بحذف الياء وصلاً ووقفاًن بخلاف واخشوني في البقرة فإنها بثبوت الياء وصلاً ووقفاً اتفاقاً، وبخلاف الآية في﴿ يٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ ﴾[المائدة: ٤١] ففيها الحذف والإثبات، والمعنى لا تخافوا من الكفار وخافون، لأني مالك الدنيا والآخرة عزاً وذلاً، ولا يملك ذلك غيري، فمن شهد ذلك وكمل دينه، فلا يخاف إلا مولاه، ولا يرجو سواه، فإنه المعطي المانع، الضار النافع. قوله: ﴿ ٱلْيَوْمَ ﴾ بدل من اليوم قبله. قوله: (أحكامه وفرائضه) دفع بذلك ما يقال إنه قد نزل بعدها﴿ وَٱتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى ٱللَّهِ ﴾[البقرة: ٢٨١] فيكون حينئذٍ الكمال نسبياً. فأجاب بأن المراد إكمال الأحكام والفرائض التي أرسل بها رسول الله، وأما آية ﴿ وَٱتَّقُواْ يَوْماً ﴾ فهي موعظة ولا حكم فيها. إن قلت إن قوله: ﴿ يقتضي نقصانه قبل ذلك. وأجيب: بأن القرآن نزل جملة في بيت العزة في سماء الدنيا، وصار ينزل بعد ذلك متفرقاً، فحين نزول هذه كأن الله تعالى يقول لا تنتظروا بعد ذلك حكماً، فإني قد أتممت لكم ما قدرته لكم وادخرته عندي، ولذلك" حين نزلت بكى عمر، فقال له رسول الله: " ما يبكيك "؟ فقال: إذا تم شيء بدا نقصه. فقال له: صدقت، فكانت هذه الآية نعي رسول الله صلى الله عليه وسلم "روي عن عمر بن الخطاب أن رجلاً يهودياً قال له: يا أمير المؤمنين آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً، فقال له: أي آية؟ قال: { ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ﴾ الآية، فقال عمر: قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي أنزلت فيه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم بعرفة يوم الجمعة بعد العصر ١ هـ. وقد تضمن جواب عمر أنهم جعلوا صبيحتها عيداً. قوله: (بإكماله) أي الدين، والأحسن أن يراد بإتمام النعمة ما هو أعم. قوله: ﴿ وَرَضِيتُ ﴾ هذه الجملة مستأنفة لبيان الحال، وليس معطوفة على أكملت، لأنه يقتضي أنه لم يرض الإسلام ديناً إلا اليوم، ولم يرضه قبل ذلك، وليس كذلك، لأن الإسلام لم يرض مرضياً لله وللنبي وأصحابه منذ أرسله، ورضي متعد لواحد، الإسلام مفعوله وديناً تمييز. قوله: ﴿ فَمَنِ ٱضْطُرَّ ﴾ مفرع على حرمت عليكم الميتة، فقوله اليوم: ﴿ يَئِسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ ﴾ إلى قوله: ﴿ دِيناً ﴾ معترض بينهما لبيان أن الإسلام حنيفية سمحاء لا صعوبة فيه كالأديان المتقدمة، ومن اسم شرط، واضطر فعل الشرط، وجوابه محذوف تقديره فلا إثم عليه، وقد صرح به في آية البقرة. قوله: (إلى أي شيء) أي بقدر الضرورة وسد الرمق، وبذلك قال الشافعي، وقال مالك: يأكل المضطر من الميتة ويشبع ويتزود، فإن استغنى عنها طرحها وقدم مال الغير على الميتة، عند مالك إن لم يخف الضرر وقدم المختلف فيه على المتفق على حرمته. قوله: ﴿ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ ﴾ أي بأن كان اضطراره ناشئاً عن إثمه، فلا يجوز له الأكل، هكذا حمل الآية مالك، وقال الشافعي غير متجانف لإثم، بأن كان عاصياً بسفره كالآبق وقاطع الطريق، فقول المفسر كقاطع الطريق والباغي أي المسافرين. وأما الحاضرون فيباح لهم أكل الميتة، وأما عند مالك فلا فرق بين العاصي بالسفر والطائع به فإنهما كالحاضر، فيأكلان منها إذا اضطرا، حيث لم يكن إصراره على المعصية موقعاً له في الاضطرار.