وقوله: ﴿ ٱتَّبَعُواْ ﴾ لا يصلح أن يكون جواباً لعدم ترتبه على الشرط لأنه سابق على بعثة رسول الله، فالأحسن عطفه على جملة ولما جاءهم رسول بيان لسوء حالهم. قوله: (أي تلت) أشار بذلك إلى أن المضارع بمعنى الماضي، لأن السماء محفوظة من استراقهم السمع من بعثة رسول الله وتلت بمعنى قرأت أو كذبت. قوله: (على عهد) على بمعنى في وعهد بمعنى زمن التقدير، واتبعوا ما تلت الشياطين في زمن ملك سليمان، ويحتمل أن تتلو بمعنى تتقول وعلى على بابها ومتعلقها محذوف تقديره على الله، فيصير المعنى واتبعوا ما تتقوله الشياطين على الله زمن ملك سليمان، وقوله: (من السحر) بيان لما وعائد الموصول محذوف تقديره تتلوه. قوله: (أو كانت تسترق السمع) أو لتنويع الخلاف لأنه اختلف في الذي اتبعته اليهود، فقيل هو السحر الذي وضعته الشياطين تحت كرسيه لما نزع ملكه، وسبب ذلك أن امرأة من نساء ليمان سجدت لصنم أربعين يوماً فعاتبه الله بنزع ملكه تلك المدة، وسبب عزله أنه كان خاتمه الذي نزل به آدم من الجنة يضعه إذا دخل الخلاء عند امرأة من نسائه تسمى الأمينة، وكان كل من لبسه يملك الدنيا بما فيها، فوضعه عندها مرة فجاءها شيطان يسمى صخر المارد، وتشكل بشكل سليمان وطلب الخاتم فأعطته له، ثم أتى الكرسي وجلس عليه أربعين يوماً فجمعت الشياطين كتب السحر ودفنتها تحت كرسيه، ثم لما انقضت المدة وجاء الأمر بتولية سليمان ثانياً طار الشيطان فوقع الخاتم في البحر فحملته دابة من دواب الماء وأتته به، فأمر سليمان الشياطين أن يأتوا بصخر المارد فأتوه به، فأمرهم أن يفتحوا صخرة ففعلوا ثم أمرهم أن يضعوه فيها ويسدوا عليه بالرصاص والنحاس ويرموه في قعر البحر الملح ففعلوا فلما مات سليمان دلت الشياطين على تلك الكتب المدفونة الناس، وقيل إنه ما استرقته الشياطين من السماء، فكان الشيطان يسمع الكلمة الصدق ويضع عليها تسعة وتسعين كذبة ويلقيها إلى الكهنة، إلى آخر ما قال المفسر. قوله: (دلت الشياطين) المراد الجنس لأن الذي دل شيطان منهم. قوله: (لأنه كفر) أي في شرعه وأما في شرعنا ففيه تفصيل، فإن اعتقد صحته وأنه يؤثر بنفسه فهو كفر، وأما إن تعلمه ليسحر به الناس فهو حرام، وإن كان لا لشيء فمكروه، وإن كان ليبطل به السحر فجائز، وعرفه ابن العربي بأن كلام مؤلف يعظم به غير الله وتنسب له المقادير، فعليه هو كفر حتى في شرعنا، وعبارة الغزالي تفيد ما قاله ابن العربي. قوله: ﴿ يُعَلِّمُونَ ٱلنَّاسَ ﴾ إما بدل من كفروا بدل فعل من فعل على حد إن تصل تسجد لله يرحكم، أو خبر بعد خبر أو جملة مستأنفة أو حال من الشياطين أو حال من الواو في كفروا، فهذه خمس احتمالات اختار المفسر آخرها. قوله: (ويعلمونهم) ﴿ مَآ أُنْزِلَ ﴾ أشار بذلك إلى أن ما اسم موصول معطوف على السحر من عطف الخاص على العام، والنكتة قوة ما أنزل على الملكين وصعوبته ويحتمل أنه مغاير، وأن ما أنزل على الملكين وإن كان سحراً إلا أنه نوع آخر منه غير متعارف بين الناس. قوله: (وقرئ) أي قراءة شاذة وفيها دليل لمن يقول إنهما ليسا ملكين حقيقيين وإنما هما رجلان صالحان، وسيما بذلك لحسنهما وصلاحهما على حد ما قيل في يوسف (ما هذا بشراً إن هذا إلا ملك كريم). قول: (الكائنين) قدرة إشارة إلى أن ببابل جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة للملكين. قوله: ﴿ بِبَابِلَ ﴾ ممنوع من الصرف للعلمية، أو العجمية مأخوذ من البلبلة لأن أهلها يتكلمون بثمانين لغة، وأول من اختطفها نوح وسماها ثمانين. قول: ﴿ هَـٰرُوتَ وَمَـٰرُوتَ ﴾ هما ممنوعان من الصرف للعلمية والعجمة، ويجمعان على هواريت ومواريت، أو على هوارية وموارية مأخوذان من الهرت والمرت وهو الكسر، ولكن حيث قلنا إنهما أعجميان فلا يتصرف فيهما أحد ولا يعلم لهما اشتقاق. قوله: (هما ساحران) قدم هذا القول إشار لقوته وأنهما رجلان ساحران وليسا بملكين. قوله: (ابتلاء من الله) أي اختباراً وامتحاناً، وقصة هاروت وماروت على القول بثبوتها، أن الملائكة لما رأوا أعمال بني آدم الخبيثة تصعد إلى السماء قالوا سبحانك يا ربنا خلقت خلقاً وأكرمتهم وهم يعصونك، فقال الله تعالى لهم لو ركبت فيكم ما ركبت فيهم لفعلتم فعلهم، فقالوا سبحانك لا نعصيك أبداً، فقال: اختاروا لكم ملكين فاختاروا هاروت وماروت وكانا من أصلحهم، فركب الله فيهما الشهوة وأمرهما بالهبوط إلى الأرض والحكم بين الناس بالحق، ونهاهما عن الشرك والقتل والزنا وشرب الخمر، وعلمهما الله الإسم الأعظم، فكان إذا أمسى الوقت صعدا به إلى السماء، ثم إنه جاءت إليهما امرأة تسمى الزهرة وكانت جميلة جداً، فلما وقع نظرهما عليها أخذت بقلوبهما فراوداها فأبت إلا أن يقتلا ففعلا، ثم راوداها فأبت إلا أن يشربا الخمر ففعلا، ثم راوداها فأبت إلا أن يسجدا للصنم ففعلا، ثم راوداها فأبت إلا أن يعلماها الاسم الذي يصعدان به إلى السماء ففعلا، فتلته فصعدت به إلى السماء فمسخها الله كوكباً فهي الزهرة المعروفة، فلما علما ذلك أرادا تلاوة الاسم الأعظم فلم تطاوعهما أجنحتهما، فذهبا إلى إدريس وسألاه أن يشفع لهما عند الله ففعل ذلك، فخيرهما الله بين عذاب الدنيا والآخرة. فاختارا عذاب الدنيا لعلمهما بانقطاعه، فهما ببابل معلقان بشعورهما يضربان بسياط من حديد إلى يوم القيامة، مزرقة أعينهما مسودة جلودهما، وما زالا يعلمان الناس السحر، وقد اختلف في صحة هذه القصة وعدمها، فاختار الحافظ ابن حجر الأول لورودها من عدة طرق عن الإمام أحمد بن حنبل، واختار البيضاوي ومن تبعه الثاني لأنه لم تثبت روايتها إلا عن اليهود. قوله: (فمن تعلمه كفر) أي إن اعتقد صحته وتأثيره. قوله: ﴿ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا ﴾ معطوف على وما يعلمان من أحد إن قلت إن الأول منفي والثاني مثبت وكيف يصح عطف المثبت على المنفي، أجيب بأنه في المعنى مثبت التقدير ويعلمون الناس السحر قائلين لهم إنما نحن فتنة فلا تكفر. قوله: ﴿ وَمَا هُم ﴾ إلخ يحتمل أن ما حجازية وهم اسمها وبضارين خبرها والباء زائدة في خبرها، ويحتمل أنها تميمية وما بعدها مبتدأ وخبر والباء زائدة في خبر المبتدأ. قوله: (أي اليهود) أي جميعهم لأنهم علموا ذلك في التوارة. قوله: (ومن موصلة) أي وهي مبتدأ واشتراه صلتها وجملة ما له في الآخرة إلخ خبرها والجملة منها ومن خبرها سادة مسد مفعولي علم. قوله: (باعوا) أشار بذلك إلى أنه يطلق الشراء على البيع. قال تعالى:﴿ وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ ﴾[يوسف: ٢٠].
قوله: (أن تعلموه) أن وما دخلت عليه في تأويل مصدر هو المخصوص بالذم وقوله حيث أوجب لهم النار حيث تعليلية. قوله: ﴿ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ﴾ لا منافاة بينه وبين قوله ولقد علموا إلخ لأنهم علموا أنهم ليس لهم نصيب في الآخرة، ولكن لم يعلموا أنهم لا يفلتون من العذاب الدائم. قوله: ﴿ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ ﴾ صفة لمثوبة وأصلها مثوبة بوزن مفعلة نقلت ضمة الواو إلى الثاء. قوله: (لما آثروه عليه) أي لما قدموا السحر على ما عند الله، وهو إشارة إلى جواب لو. قوله: ﴿ رَاعِنَا ﴾ أي اشملنا بنظرك ليفتح الله علينا، لأنهم كانوا يقولونها عند سماعهم الوحي منه. قوله: (أمر من المراعاة) أي وهي المبالغة في الرعي وحفظ الغير. قوله: (سب من الرعونة) أي الحمق والجهل وقلة العقل أو معناها اسمع لا سمعت وعليه فهي عبرانية أو سريانية وعلى ما قاله المفسر فهي عربية، روي أن سعد بن معاذ رضي الله عنه سمع اليهود يقولونها لرسول الله، فقال يا أعداء الله عليكم لعنة الله لئن سمعتها من رجل منكم يقولها لرسول الله لأضربن عنقه، قالوا أو لستم تقولونها، فنزلت الآية ونهى فيها المؤمنون عن ذلك قطعاً لألسنة اليهود عن التدليس وأمروا بما في معناها ولا يقبل التدليس الذي هو انظرنا. قوله: (أي انظر الينا) أشار بذلك إلى أنه من باب الحذف والإيصال، حذف الجار فاتصل الضمير. قوله: (سماع قبول) أي بحضور قلب عند تلقي الأحكام، فإنه إذا وجدت القابلية من الطالب مع نظر المعلم حصل الفتح العظيم.


الصفحة التالية
Icon