قوله: ﴿ وَيَصُدُّونَ ﴾ معطوف على ﴿ كَفَرُواْ ﴾ ففيه عطف المستبقل على الماضي، وحينئذ فإما أن يراد بالماضي المضارع، أو يجرد المضارع عن معناه، بأن يراد به الثبوت والاستمرار لتناسب العطف، وهذا هو الأحسن، ولا يصح جعل ﴿ وَيَصُدُّونَ ﴾ حالاً، لأن الجملة المضارعية المثبتة إذا وقعت حالاً لا تقرن بالواو، قال ابن مالك: وذات بدء بمضارع ثبت حوت ضميراً ومن الواو خلتولا جعل الواو زائدة، لأن الأصل عدمها، وخبر ﴿ إِنَّ ﴾ محذوف يقدر بعد قوله: ﴿ وَٱلْبَادِ ﴾ لدلالة قوله: ﴿ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ والتقدير (نذيقهم من عذاب أليم) كما سيأتي للمفسر. قوله: (منسكاً) قدره إشارة إلى أن مفعول جعلنا الثاني محذوف، وقوله: (ومتعبداً) عطف تفسير. قوله: ﴿ لِلنَّاسِ ﴾ ظرف لغو، إما متعلق بمنسكاً الذي قدره المفسر أو يجعلنا، وهذا التقدير إنما هو لإيضاح المعنى، وإلا فيصح جعل جملة ﴿ سَوَآءً ٱلْعَاكِفُ فِيهِ وَٱلْبَادِ ﴾ مفعولاً ثانياً، وعلى ما قدره المفسر تكون حالية. قوله: ﴿ سَوَآءً ٱلْعَاكِفُ فِيهِ ﴾ ﴿ سَوَآءً ﴾ بالرفع خبر مقدم، و ﴿ ٱلْعَاكِفُ ﴾ وما عطف عليه مبتدأ مؤخر، وقرأ حفص بالنصب فيعرب حالاً، والعاكف مرفوع على الفاعلية لسواء، لأنه مصدر وصف به، فهو في قوة اسم الفاعل المشتق تقريره: جعلناه مستوياً فيه العاكف، الخ. والمعنى أن المقيم في المسجد والطارئ سواء في النزول به، فمن سبق إلى مكان فيه فهو حقه، لا يقيمه منه غيره، وليس المراد أن دور مكة غير مملوكة لأربابها؛ فالغريب وأهل البلد سواء فيها، بل هي مملوكة لأربابها، ويجوز بيعها وإجارتها. قوله: ﴿ وَٱلْبَادِ ﴾ بإثبات الياء وصلاً ووقفاً، أو حذفها فيهما، أو حذفها وقفاً وإثباتها وصلاً، ثلاث قراءات سبعيات، وقوله: (الطارئ) دفع به ما يتوهم من قوله البادي، أن المراد به ساكن البادية، بل المراد به الطارئ كان من البادية أو لا، وإنما سمي الطارئ بادياً، لأنه لا يأتي إليها إلا من البادية. قوله: ﴿ وَمَن يُرِدْ فِيهِ ﴾ أي يقصد في المسجد الحرام. قوله: ﴿ بِإِلْحَادٍ ﴾ أي عدول عن الاعتدال قوله: (الباء زائدة) أي في المفعول. قوله: ﴿ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ أي في الآخرة إلا أن يتوب. وأخذ منه أن السيئة في مكة أعظم من السيئة في غيرها، ومن هنا كره مالك المجاورة في مكة لغير أهلها وندبها بالمدينة. قوله: (ومن هذا) أي جواب الشرط. قوله: (يؤخذ خبر إن) أي ويكون مقدراً بعد قوله: ﴿ وَ ﴾ (اذكر) قدره إشارة إلى أن قوله: ﴿ بَوَّأْنَا ﴾ ظرف لمحذوف. قوله: (بينا) ﴿ لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ ٱلْبَيْتِ ﴾ أي أرينا أصله ليبنيه حين أسكن ولده إسماعيل وأمه هاجر في تلك الأرض، وأنعم الله عليهما بزمزم، فدعا الله بعمارة هذا البيت، فبعث الله له ريحاً هفافة، فكشفت عن أساس آدم، فرتب قواعده عليه، لأن أساسه في الأرض كما قيل ثلاثون ذراعاً بذراع آدم، وقيل بعث الله تعالى سبحانه بقدر البيت، فقامت بحذاء البيت وفيه رأس يتكلم يا إبراهيم ابن علي دوري فبنى عليه، وجعل طوله في السماء سبعة أذرع بذراعه، وأدخل الحجر في البيت، ولم يجعل له سقفاً، وجعل له باباً، وحفر له بئراً يلقى فيه ما يهدى للبيت، وبناه قبله شيث، وقبل شيث آدم، وقبل آدم الملائكة، ثم بعد إبراهيم بناه العمالقة، ثم جرهم، ثم قصي، ثم قريش، ثم الزبير، ثم الحجاج، وهي باقية الآن على بنائه، ثم يهدمها في آخر الزمان ذو السويقتين، فيجددها عسى ابن مريم عليه السلام. قوله: (وأمرناه) قدره إشارة إلى أن قوله: ﴿ أَن لاَّ تُشْرِكْ ﴾ معمول لمحذوف، وذلك المحذوف معطوف على ﴿ بَوَّأْنَا ﴾.
قوله: (من الأوثان) قيل المراد بها الأصنام، لأن جرهماً والعمالقة، كانت لهم أصنام في محل البيت قبل أن يبنيه إبراهيم عليه السلام، وقيل المراد نزهه عن أن يعبد فيه غيره تعالى، فهو كناية عن إظهار التوحيد، ويصح أن يكون المراد طهره من الأقذار والأنجاس والدماء، وجميع ما تنفر منه النفوس. قوله: ﴿ وَأَذِّن فِي ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجِّ ﴾ أي بالدعاء إليه والأمر به. قوله: (على جبل أبي قبيس) أي فلما صعد للنداء، خفضت الجبال رؤوسها ورفعت له القرى، فنادى في الناس بالحج، فأول من أجابه أهل اليمن، فليس حاج يومئذ إلى يوم تقوم الساعة، إلا من أجاب إبراهيم عليه السلام يومئذ، فمن لبى مرة حج مرة، ومن لبى مرتين حج مرتين، ومن لبى أكثر حج بقدر تلبيته. قوله: (لبيك اللهم لبيك) أي أجبتك إجابة بعد إجابة. قوله: ﴿ يَأْتُوكَ ﴾ أي يأتوا مكانك، لأن المقصود إتيان البيت لا إتيان إبراهيم، وقوله: ﴿ رِجَالاً وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ ﴾ ليس في دليل على أن راكب البحر لا يجب عليه الحج، لأن مكة ليست على البحر، وإنما يتوصل إليها على إحدى هاتين الحالتين. قوله: ﴿ وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ ﴾ التضمير في الأصل أن تعلف الفرس حتى يسمن، ثم تقلل عنه الأكل شيئاً فشيئاً، حتى يصل إلى حد القوت، وحينئذ فيكون سريع الجري، وقدم الراجل لما ورد: أن له بكل خطوة سبعمائة حسنة من حسنات المحرم، كل حسنة مائة ألف حسنة، وللراكب بكل خطوة سبعون حسنة، وأخذ الشافعي من هذا الحديث، أن المشي أفضل من الركوب، وقال مالك: الركوب أفضل لأنه أقرب للشكر، ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حج راكباً، ولو كان المشي أفضل لفعله رسول الله، أجاب عن الحديث بأنه مزية، وهي لا تقتضي الأفضلية. قوله: (حملاً على المعنى) أي حيث ألحق الفعل العلامة، ولو راعى اللفظ لقال يأتي. قوله: (بالتجارة) أي لأنها جائزة للحاج من غير كراهة، إذا لم تكن مقصودة بالسفر.