﴿ يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ ﴾ الآية. لما أبهم في قوله: نصيب مما ترك الولدان والأقربون، في المقدار والأقربين، بيّن في هذه الآية المقادير ومن يرث من الأقربين وبدأ بالأولاد وارثهم من والديهم كما بدأ في قوله:﴿ لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ ٱلْوَالِدَانِ ﴾[النساء: ٧]، بهم وفي قوله: في أولادكم إجمال، أيضاً بينه بعد وبدأ بقوله:﴿ لِلذَّكَرِ ﴾ وتبيين ماله دلالة على فضله وكان تقديم الذكر أدل على فضله من ذكر بيان نقص الأنثى عنه ولأنهم كانوا يورثون الذكور دون الإِناث فكفاهم أن ضوعف لهم نصيب الإِناث فلا يحرمن إذ هن يدلين بمثل ما يدلون من الوالدية، وقد اختلف القول في سبب النزول ومضمن أكثر تلك الأقوال أنهم كانوا لا يورثون البنات كما تقدم فنزلت تبييناً لذلك ولغيره.﴿ فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ ٱثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ ﴾ ظاهر هذا التقسيم إن ما زاد على الثنتين من الأولاد يرثن الثلثين مما ترك مورّثهما. وظاهر السياق انحصار الوارث فيهن. ولما كان لفظ الأولاد يشمل الذكور والإِناث وقصد هنا بيان حكم الإِناث أخلص الضمير للتأنيث إذ الإِناث أحد قسمي ما ينطلق عليه الأولاد فعاد الضمير على أحد القسمين. والضمير في كن ضمير الإِناث كما قلنا أي، فإِن كان الوارثات نساء حسن كونه خبر الوصف بقوله بفوق اثنتين. وأجاز الزمخشري أن يكون نساء خبراً وفوق خبراً ثانياً لكان، وليس بشيء لأن الخبر لا بد أن تستقل به فائدة الإِسناد ولو سكت على قوله: فإِن كن نساء لكان نظير إن كان الزيدون رجالاً وهذا ليس بكلام. وقال بعض البصريين: التقدير وإن كان المتروكات نساء فوق اثنتين وقدره الزمخشري البنات أو المولودات. وقال الزمخشري: فإِن قلت: هل يصح أن يكون الضمير إن في كن وكانت مبهمين ويكون نساء وواحدة تفسيراً لهما على ان كان تامة؟ قلت: لا أبعد ذلك. " انتهى ". ويعني بالابهام أنهما لا يعودان على مفسر متقدم بل يكون مفسرهما هو المنصوب بعدهما وهذا الذي لم يبعده الزمخشري هو بعيد أو ممنوع البتة لأن كان ليست من الأفعال التي يكون فاعلها مضمراً يفسره ما بعده بل هذا مختص من الأفعال بنعم وبئس. وما حمل عليهما وفي باب التنازع على ما قرر في النحو. ومعنى فوق أكثر من اثنتين بالغات ما بلغن من العدد فليس لهن إلا الثلثان ومن زعم أن معنى قوله: نساء فوق اثنتين اثنتين فما فوقهما وإن قوة الكلام تقتضي ذلك كابن عطية أو انّ فوق زائدة مستدلاً بأن فوق قد زيدت في قوله:﴿ فَٱضْرِبُواْ فَوْقَ ٱلأَعْنَاقِ ﴾[الأنفال: ١٢]، فلا يحتاج في رد ما زعم إلى حجة لوضوح فساده وذكروا أن سهم البنتين في الميراث الثلثان كالبنات قالوا: ولم يخالف في ذلك إلا ابن عباس فإِنه يرى لهما النصف إذا انفردا كحالهما إذا اجتمعا مع الذكر وورد في الحديث في قصة أوس بن ثابت، انّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى البنتين الثلثين.﴿ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا ٱلنِّصْفُ ﴾ أي وكانت الوارثة واحدة. قرىء بضم التاء على أنّ كان تامة وبنصبها على الخبر. وقرىء النصف بضم النون وكسرها.﴿ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا ٱلسُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ ﴾ لما ذكر الفروع ومقدار ما يرثون أخذ في ذكر الأصول ومقدار ما يرثون فذكر أن الميت يرث منه أبواه كل واحد السدس إن كان للميت ولد أبواه هما أبوه وأمه. وغلب لفظ الأب في التثنية كما قيل: القمران، فغلب القمر لتذكيره على الشمس وهي تثنية لا تنقاس. وشمل قوله: وله ولد الذكر والأنثى والواحد والجماعة وظاهر الآية ان فرض الأب السدس إذا كان للميت ولد أيّ ولد كان وباقي المال للولد ذكراً كان أو أنثى والحكم عند الجمهور أنه لو كان الولد ابنه أخذ السدس فرضاً والباقي تعصيباً وتعلقت الروافض بظاهر لفظ ولد فقالوا السدس لكل واحد من أبويه والباقي للبنت أو الابن إذ الولد يقع على الذكر والأنثى. والضمير في لأبويه عائد على ما عاد عليه الضمير في ترك وهو ضمير الميت الدال عليه معنى الكلام وسياقه ولكل واحد منهما بدل من أبويه، ويفيد معنى التفصيل وتبيين أن السدس لكل واحد منهما إذ لولا هذا البدل لكان الظاهر اشتراكهما في السدس وهو أبلغ وآكد من قولك: لكل واحد من أبويه السدس إذ تكرر ذكرهما مرتين مرة بالإِظهار ومرة بالضمير العائد عليهما. وقال الزمخشري: والسدس مبتدأ وخبره لأبويه والبدل متوسط بينهما. " انتهى ". وفي قول الزمخشري: والسدس مبتدأ وخبره لأبويه نظراً لأن البدل هو الذي يكون الخبر له دون المبدل منه كما مثلناه في قولك: أبواك كل واحد منهما يصنع كذا إذا أعربنا كلا بدلاً. وكما تقول: إن زيداً عينه حسنة، فكذلك ينبغي أن يكون إذا وقع البدل خبراً فلا يكون المبدل منه هو الخبر، واستغنى عن جعل المبدل منه خبراً بالبدل كما استغنى عن الاخبار عن اسم انّ وهو المبدل منه بالاخبار عن البدل ولو كان التركيب ولأبويه السدسان لا وهم التنصيف أو الترجيح في المقدار بين الأبوين، فكان هذا التركيب القرآني في غاية النصيّة والفصاحة وظاهر قوله: ولأبويه انهما اللذان ولد الميت قريباً لاجداه ولا من علا من الأجداد وزعموا إن قوله: في أولادكم، يتناول من سفل من الأبناء، قالوا: لأن الأبوين لفظ مثنى لا يحتمل العموم ولا الجمع بخلاف قوله: في أولادكم، وفيما قالوه نظروهما عندي سواء في الدلالة ان نظر الى حمل اللفظ على حقيقته فلا يتناول إلا الأبناء الذين ولدهم الأبوان قريباً لا من سفل كالأبوين لا يتناول إلا من ولداه قريباً لا من علا أو إلى حمل اللفظ على مجازه فيشترك اللفظان في ذلك فينطلق الأبوان على من ولداه قريباً. ومن علا كما ينطلق الأولاد على من ولداهم قريباً ومن سفل وتبيين جملة على الحقيقة في الموضعين أن إبن الابن لا يرث مع الابن وأن الجدة لا يفرض لها الثلث بإِجماع فلم يتنزل ابن الابن منزلة ابن مع وجوده ولا الجدة منزلة الأم.﴿ فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ ٱلثُّلُثُ ﴾ قوله: فإِن لم يكن له ولد، قسيم لقوله: إن كان له ولد وورثه أبواه، دليل على أنهما انفردا بميراثه ليس معهما أحد من أهل السهام لا ولد ولا غيره؛ فيكون قوله: وورثه أبواه حكماً لهما بجميع المال فإِذا خلص للأم الثلث كان الباقي وهو الثلثان للأب. فذكر القسم الواحد يدل على الآخر كما تقول: هذا المال لزيد وعمر ولزيد منه الثلث، فيعلم قطعاً أن باقيه وهو الثلثان لعمرو فلو كان معهما زوج كان للأم السدس وهو الثلث بالاضافة إلى الأب وقال ابن عباس وشريح: للأم الثلث من جميع المال مع الزوج، والنصف للزوج، وما بقي للأب فيكون معنى وورثه أبواه منفردين أو مع غير ولد وهذا مخالف لظاهر قوله: وورثه أبواه إذ يدل على أنهما انفردا بالإِرث فيتقاسمان للذكر مثل حظ الأنثيين ولا شك أن الأب أقوى في الإِرث من الأم إذ يضعف نصيبه على نصيبهما إذ انفرد بالإِرث ويرث بالفرض وبالتعصيب وبهما. وفي قول ابن عباس وشريح: يكون لهما مع الزوج والأب مثل حظ الذكرين فتصير أقوى من الأب وتصير الأنثى لها مثلاً حظ الذكر. ولا دليل على ذلك من نص ولا قياس.﴿ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ ٱلسُّدُسُ ﴾ المعنى أنه إذا كان أب وأم وأخوة كان نصيب الأم السدس وحطها الاخوة من الثلث إلى السدس وصار الأب يأخذ الخمسة الأسداس. وذهب ابن عباس إلى أن الأخوة يأخذون ما حجبوا الأم عنه وهو السدسي ولا يأخذه الأب. وروى عنه أن الأب يأخذه لا الأخوة كقول الجماعة. وقال الزمخشري: الاخوة تفيد معنى الجمعية المطلقة بغير كمّة والتثنية كالتثليث والتربيع في إفادة الكمية وهذا موضع الدلالة على الجمع المطلق فدل بالاخوة عليه. " انتهى ". ولا يسلم له دعوى ان الاخوة تفيد معنى الجمعية المطلقة بل تفيد معنى الجمعية التي بعد التثنية بغير كمية فيما بعد التثنية فيحتاج في إثبات دعواه إلى دليل وظاهر إخوة الاطلاق فيتناول الاخوة من الأم فيحجبون كما قلنا. قيل: وذهبت الروافض إلى أن الأخوة من الأم لا يحجبون الأمّ لأنهم يدلون بها فلا يجوز أن يحجبوها ويجعلوها كغيرها فيصيرون ضارين لها نافعين لغيرها واستدل بهذه الآية على أن البنت تقلب حق الأم من الثلث إلى السدس بقوله: فإِن كان له إخوة لأنها إذا حرمت الثلث بالاخوة وانتقلت إلى السدس فلأن تحرم بالبنت أولى.﴿ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَآ أَوْ دَيْنٍ ﴾ المعنى أن قسمة المال بين من ذكر إنما يكون بعد خروج ما يجب إخراجه بوصية أو بدين وليس تعلق الوصية والدين بالتركة سواء إذ لو هلك من التركة شيء قبل القسمة ذهب من الورثة والموصى له جميعاً ويبقى الباقي بينهم بالشركة ولا يسقط من الدين شيء بهلاك شيء من التركة فليس تعلق الوصية والدين بالمال الموروث سواء، ألا ترى إن الدين لا يسقط منه شيء بذهاب بعض المال بخلاف الوصية فإِنها يسقط منها ما يقابل بعض المال الذاهب ويتعلق من بعد بفعل محذوف تقديره يستحقون ذلك من بعد وصية. وقرىء يوصى بها بكسر الصاد وفتحها وهو مضارع في موضع الماضي وأو هنا كهي في قولهم: جالس الحسن أو ابن سيرين.﴿ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً ﴾ أي فاقتسموا الميراث على ما بين لكم من يعلم النفع والمصلحة فإِنكم لا تدرون أنتم ذلك. وقال الزجاج: انه تعالى قد فرض الفرائض على ما هو حكمة عنده ولو وكل ذلك إليكم لم تعلموا أيهم أنفع لكم فتضيعون الأموال على غير حكمة ولهذا اتبعه بقوله: إن الله كان عليماً أي بمصالح خلقه حكيماً فيما فرض. وأيهم أقرب مبتدأ، وخبر علق عنه تدرون لأنه من أفعال القلوب، والجملة في موضع نصب، ويجوز أن يكون أيهم موصولاً مفعولاً بتدرون وهو مبني على الضم إذ قد وجد شرط بنائها وهو إضافتها لما بعدها وحذف صدر صلتها فالمعنى لا تدرون الذين هم أقرب لكم نفعاً.﴿ فَرِيضَةً مِّنَ ٱللَّهِ ﴾ انتصب على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة في قسمة المواريث فوقع فريضة موقع فرضا من الله أو على أنها حال مؤكدة لمضمون الجملة السابقة.﴿ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً ﴾ فيما فرض وقسم من المواريث وغيرها.


الصفحة التالية
Icon