﴿ جَعَلَ ٱللَّهُ ٱلْكَعْبَةَ ﴾ الآية مناسبتها لما قبلها ظاهرة، وذلك أنه تعالى ذكر تعظيم الإِحرام بالنهي عن قتل الوحش فيه بحيث شرع بقتله ما شرع. وذكر تعظيم الكعبة بقوله:﴿ هَدْياً بَالِغَ ٱلْكَعْبَةِ ﴾[المائدة: ٩٥]، فذكر تعالى في هذه الآية أنه جعل الكعبة قياماً للناس أي ركز في قلوبهم تعظيمها؛ وجعل هنا بمعنى صيّر، وقيل: بمعنى بين وحكم. وينبغي أن يحمل هذا على تفسير المعنى إذ لم ينقل جعل مرادفة لهذا المعنى لكنه من حيث التصيير يلزم منه التبيين والحكم، ولما كان لفظ الكعبة قد أطلقه بعض العرب على غير البيت الحرام كالبيت الذي كان في خثعم يسمى كعبة اليمانية، بين تعالى أن المراد هنا بالكعبة البيت الحرام، وهو بدل من الكعبة أو عطف بيان. وقال الزمخشري: البيت الحرام عطف بيان على جهة المدح لا على جهة التوضيح، كما تجيء الصفة كذلك. " انتهى ". وليس كما ذكر لأنهم ذكروا في شرط عطف البيان الجمود وإذا كان شرطه أن يكون جامداً لم يكن فيه إشعار بمدح إذ ليس مشتقاً وإنما يشعر بالمدح المشتق. إلا أن يقال: إنه لما وصف عطف البيان بقوله: الحرام، اقتضى المجموع المدح فيمكن ذلك. والقيام مصدر، يقال: قيام الأمر، وقوام الأمر، وكونه قياماً للناس باتساع الرزق عليهم وبامتناع الإِغارة في الحرم وبسبب صيرورتهم أهل الله فكل أحد يتقرب إليهم وبما يقام فيها من المناسك وفضل العبادات وبأمْن من توجه إليها أذى من جرّ جريرة ولجأ إليها وببقاء الدين ما حجّت واستقبلت.﴿ وَٱلشَّهْرَ ٱلْحَرَامَ ﴾، الحرامُ ظاهره الافراد وهو ذو الحجة لإِقامة موسم الحج فيه. وقيل: المراد به الجنس فيشمل الأشهر الحرم الأربعة الثلاثة بإِجماع من العرب وشهر مضر وهو رجب كان كثير من العرب لا يراه ولذلك يسمى شهر الله، إذ كان تعالى قد ألحقه في الحرمة بالثلاثة فنسبه وشدده وكانوا لا يهجون أحداً في الشهر الحرام ولا من ساق الهدى لأن يعلم أنه لم يجيء لحرب ولا من خرج يريد البيت لحج أو عمرة فتقلد من لحاء السمر ولا من قضى نسكه فتقلد من شجر الحرم.﴿ ذٰلِكَ لِتَعْلَمُوۤاْ ﴾ الظاهر أن الإِشارة هي للمصدر المفهوم، أي ذلك الجعل لهذه الأشياء قياماً للناس وأمناً لهم لتعلموا أنه تعالى يعلم تفاصيل الأمور الكائنة في السماوات والأرض ومصالحكم في دنياكم ودينكم. وقيل: الإِشارة إلى صرف قلوب الناس إلى مكة في الأشهر المعلومة فتعيش أهلها معهم ولولا ذلك لماتوا جوعاً لعلمه بما في ذلك من مصالحهم وليستدلوا على أنه يعلم ما في السماوات وما في الأرض.﴿ ٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ ﴾ الآية هذا تهديد إذ أخبر أن عقابه شديد لمن انتهك حرمته.﴿ وَأَنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ وهذا ترجية بالغفران والرحمة لمن حافظ على طاعته تعالى أو تاب عن معاصيه.﴿ قُل لاَّ يَسْتَوِي ٱلْخَبِيثُ وَٱلطَّيِّبُ ﴾ روى جابر" أن رجلاً قال: يا رسول الله إن الخمر كانت تجارتي فهل ينفعني ذلك المال إذا عملته في طاعة الله؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله لا يقبل إلا الطيب "فنزلت هذه الآية، ومناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما حذر عن المعصية ورغب في الطاعة بقوله: اعلموا أن الله شديد العقاب، الآية، وأتبعها بالتكليف بقوله: ما على الرسول إلا البلاغ، ثم بالترغيب في الطاعة والتنفير عن المعصية بقوله: والله يعلم ما تبدون وما تكتمون، أتبعه بنوع آخر من الترغيب في الطاعة والتنفير عن المعصية فقال: قل لا يستوي، الآية. ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ ﴾ الآية روى البخاري ومسلم واللفظ للبخاري عن أنس قال:" قال رجل: يا رسول الله مَنْ أبي؟ قال: أبوك فلان "ونزلت الآية، والسائل هو عبد الله بن حذافة. وأشياء اسم جمع كطرفاء، وعلى مذهب سيبويه أصلها شيئاً، من لفظ شيء ثم قلب فجعل لامه وهي الهمزة أولاً مكان فاء الكلمة فوزنها نفعاء وجعلت فاء الكلمة وهي الشين تلي اللام، وجعلت الياء مكان لام الكلمة وهي كانت عيناً لأن المادة هي الشين والياء والهمزة، وفي وزنها أقوال أخر ذكرت في البحر. والجملة من قوله: أن تبدلكم تسؤكم، وما عطف عليها من الشرط والجزاء في موضع الصفة لأشياء.﴿ عَفَا ٱللَّهُ عَنْهَا ﴾ أي عن الأشياء التي نهيتكم عن السؤال عنها. ﴿ قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ ﴾ ظاهره أنه يعود على الأشياء ولا يمكن لأن الأشياء التي نهوا عن السؤال عنها ليست الأشياء التي سألها القوم الذين في هذه الآية فيكون ذلك على حذف مضاف تقديره قد سأل أمثالها وكان بنوا إسرائيل يسألون على حذف مضاف تقديره قد سأل أمثالها وكان بنوا إسرائيل يسألون أنبياءهم عن أشياء هي تعنّتات وسؤالات لا تجوز، كقولهم:﴿ أَرِنَا ٱللَّهَ جَهْرَةً ﴾[النساء: ١٥٣].
﴿ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا ﴾ أي بتلك السؤالات كافرين.


الصفحة التالية
Icon