﴿ يِا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ ﴾ الآية روى البخاري وغيره عن ابن عباس قال:" كان تميم الداري وعدي يختلفان إلى مكة فخرج معهما فتى من بني سهم فتوفي بأرض ليس فيها مسلم فأوصى إليهما فدفعا تركته إلى أهله وحبسا جاما من فضة مخوصاً بالذهب فاستحلفهما "وفي رواية" فحلفهما بعد العصر النبي صلى الله عليه وسلم ما كتمتما ولا اطلعتما ثم وجد الجام بمكة فقالوا: اشتريناه من عدي وتميم فجاء الرجلان من ورثة السهمي فحلفا أن هذا الجام للسهمي ولشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا قال: فأخذوا الجام "وفيهم نزلت هذه الآية، ومناسبتها لما قبلها هو أنه لما ذكر: يا أيها الذين آمنوا، كان في ذلك تنفير عن الضلال واستبعاد عن أن ينتفع بهم في شيء من أمور المؤمنين من شهادة أو غيرها، فأخبر تعالى بمشروعية شهادتهم أو الإِيصاء إليهم في السفر على ما سيأتي بيانه. وقرأ الجمهور شهادة بالرفع بينكم بالجر، وشهادة مبتدأ، واثنان خبره على أحد تقديرين، أحدهما: أن يكون التقدير ذو شهادة بينكم اثنان. والتقدير الثاني: أن لا يحذف من الأول ويحذف من الثاني فتقدر الشهادة اثنين فيطابق المبتدأ الخبر في التقديرين إذ لو حمل على غير حذف لم يصح لأن الشهادة ليست تفسير الاثنين. وقرأ السلمي شهادة بالنصب والتنوين وقدره الزمخشري ليقم شهادة اثنان فجعل شهادة مفعولاً بإِضمار هذا الأمر، واثنان مرتفع بليقم على الفاعلية وهذا الذي قدره الزمخشري هو تقدير ابن جني بعينه، قال ابن جني: التقدير ليقم شهادة بينكم اثنان. " انتهى ". وهذا الذي ذكره ابن جني مخالف لما قاله أصحابنا قالوا: لا يجوز حذف الفعل وإبقاء فاعله إلا أن أشعر بالفعل ما قبله كقوله تعالى:﴿ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِٱلْغُدُوِّ وَٱلآصَالِ * رِجَالٌ ﴾[النور: ٣٦-٣٧]، على قراءة من فتح الباء فقرأه مبنياً للمفعول وذكروا في اقتياس هذه خلافاً أي يسبحه رجال فدل يسبح على يسبحه أو أجيب به نفي كان يقال لك ما قام أحد عندك، فتقول: بلى زيد أي قام زيد، أو أجيب به استفهام كقول الشاعر: ألا هل أتى أم الحويرث مرسل   بلى خالد إن لم تعقه العوائقالتقدير أتى خالد أو يأتيها خالد، وليس حذف الفعل الذي قدره ابن جني وتبعه الزمخشري واحداً من هذه الأقسام الثلاثة، والذي عندي أن هذه القراءة الشاذة تتخرج على وجهين، أحدهما: أن يكون شهادة منصوباً على المصدر الذي ناب مناب الفعل بمعنى الأمر، واثنان مرتفع به، والتقدير ليشهد بينكم اثنان. والوجه الثاني: أن يكون أيضاً مصدراً ليس بمعنى الأمر بل يكون خبر أناب مناب الفعل في الخبر وإن كان ذلك قليلاً كقولهم: افعل وكرامة ومسرة، أي أكرمك وأسرك، أي يشهد اثنان.﴿ ذَوَا عَدْلٍ ﴾ صفة لقوله: اثنان، ومنكم صفة أخرى، ومن غيركم صفة لآخران. قال ابن عباس وغيره: أمر تعالى بإِشهاد عدلين من القرابة إذ هم أحق بحال الوصية وأدرى بصورة العدل فيها فإِن كان الأمر في سفر ولم تنحصر قرابة أسندها إلى غيرهما من المسلمين الأجانب. وهذا القول مخالف لما ذكره الزمخشري وغيره من المفسرين حتى أن ابن عطية قال: لا نعلم خلافاً أن سبب هذه الآية أن غيماً الداري وعدياً بن زياد كانا نصرانيين، وساق الحديث المذكور أولاً. وقال أبو جعفر النحاس: ناصر القول ابن عباس أن هذا القول ينبني على معنى غامض في العربية وذلك أن معنى آخر في العربية من جنس الأول تقول: مررت بكريم وكريم آخر، فقولك: آخر، يدل على أنه من جنس الأول. ولا يجوز عند أهل العربية مررت بكريم وخسيس آخر، ولا مررت برجل وحمار آخر، فوجب من هذا أن يكون معنى قوله: أو آخران من غيركم، أي عدلان والكفار لا يكونون عدولاً. " انتهى ". وما ذكره في المثل صحيح إلا أن الذي في الآية مخالف للمثل التي ذكرها النحاس في التركيب لأنه مثل بتأخير آخر وجعله صفة لغير الجنس وأما الآية فمن قبيل ما تقدم فيه آخر على الوصف والأربع واندرج آخر في الجنس الذي قبله ولا يعتبر جنس الأول تقول: جاءني رجل مسلم وآخر كافر، ومررت برجل قائم وآخر قاعد، واشتريت فرساً سابقاً وآخر مبطئاً. فلو أخرت آخر في هذه المثل لم تجز المسألة. لو قلت: جاءني رجل مسلم وكافر آخر، ومررت برجل قائم وقاعد آخر، واشتريت فرساً سابقاً ومبطئاً آخر، لم يجز. وليست الآية من هذا القبيل لأن التركيب فيها جاء اثنان ذوا عدل منكم وآخران من غيركم فآخران من جنس قوله: اثنان ولا سيما إذا قدرته رجلان اثنان فآخران هما من جنس قولك: رجلان اثنان، ولا يعتبر وصف قوله: ذوا عدل منكم، وإن كان مغايراً لقوله: من غيركم، كما لا يعتبر وصف الجنس في قولك: عندي رجلان اثنان مسلمان وآخران كافران، إذ ليس من شرط آخر إذا تقدم أن يكون من جنس الأول بقيد وصفة وعلى ما ذكرته هو لسان العرب. قال تعالى:﴿ قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ ٱلْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَأُخْرَىٰ كَافِرَةٌ ﴾[آل عمران: ١٣].
وأخرى تأنيث آخر. وقال زهير بن أبي سلمى: كانوا فريقين يصفون الزجاج على قعسي الكواهل في أكتافهم شمم وآخرين ترى الماذى عدتهم من نسح داود أو ما أورثت ارم. قوله: يصغون أي يميلون. والزجاج عني به الأسنة. وقعس جَمع أقعس وهو الأحدب. والشمم: الارتفاع. والماذي: الدروع اللينة الصافية وارم: أمة قديمة. التقدير كانوا فريقين فريقاً أو ناساً يصغون الزجاج ثم قال: وآخرين ترى الماذي، فآخرين من جنس قولك: فريقاً، ولم يعتبره. بوصفه وهو قوله: يصغون الزجاج، لأن الشاعر قسم من ذكر إلى قسمين متباينين بالوصف متحدين في الجنس وهذا الفرق قلّ من يفهمه فضلاً عمّن يعرفه. والظاهر أن أو للتخيير، وقال به ابن عباس. فمن جعل قوله: من غيركم أي من غير عشيرتكم كان مخيراً بين أيستشهد أقاربه أو الأجانب من المسلمين. ومن زعم أن قوله: من غيركم، أي من الكفار. فاختلفوا فقيل: غيركم يعني به أهل الكتاب، وروي ذلك عن ابن عباس وقيل: أهل الكتاب والمشركون وهو ظاهر قوله: من غيركم. وقيل: أو للترتيب إذا كان قوله: من غيركم، يعني به من غير أهل ملتكم فالتقدير إن لم يوجد من ملتكم.﴿ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي ٱلأَرْضِ ﴾ الآية هذا التفات من الغيبة إلى الخطاب ولو جرى على لفظ إذا حضر أحدكم الموت لكان التركيب إن هو ضرب في الأرض فأصابته مصيبة الموت. وإنما جاء الالتفات جمعاً لأن قوله: أحدكم معناه إذا حضر كل واحد منكم الموت، والمعنى إذا سافرتم في الأرض لمصالحكم ومعاشكم، وظاهر الآية يقتضي أن استشهاد آخرين من غير المسلمين مشروط بالسفر في الأرض وحضور علامات الموت.﴿ تَحْبِسُونَهُمَا ﴾ قال الفارسي والحوقي وأبو البقاء: صنفه لآخران. واعترض بين الموصوف والصفة بالشرط وما عطف عليه وأفاد الاعتراض أن العدول إلى آخرين من غير الملة أو القرابة حسب اختلاف العلماء في ذلك إنما يكون مع ضرورة السفر وحلول الموت فيه واستغنى عن جواب إن لما تقدّم من قوله: أو آخران من غيركم. " انتهى ". وقال الزمخشري: فإِن قلت ما موضع تحسبونهما؟ قلت: هو استئناف كلام كأنه قيل: بعد اشتراط العدالة فيهما فكيف إن ارتبنا فيهما. فقيل: تحسبونهما " انتهى ". وما قاله الزمخشري من الاستئناف أظهر من الوصف لطول الفصل بالشرط والمعطوف عليه بين الموصوف وصفته وإنما غيركم معناه أو عدلان آخران من غير القرابة والخطاب في ذلك لمن يلي ذلك من ولاة المسلمين وضمير المفعول عائد في قوله على آخرين من غير المؤمنين، والظاهر عوده على اثنين منا أو من غيرنا سواء أكانا وصيّين أم شاهدين. وظاهر قوله: من الصلاة أن الألف واللام ليسا للجنس أي من بعد صلاة. وقد قيل بهذا الظاهر وقيل: هي صلاة العصر، ورجح بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم استحلف تميماً وعدياً بعدها عند المنبر.﴿ فَيُقْسِمَانِ بِٱللَّهِ إِنِ ٱرْتَبْتُمْ ﴾ الآية الظاهر تقييد حلفهما بوُجود الارتياب فمتى لم توجد الريبة فلا تحليف. ﴿ لاَ نَشْتَرِي ﴾ جواب القسم والضمير في به عائد على القسم بالله. و ﴿ ثَمَناً ﴾ على حذف مضاف تقديره مالاً ذا ثمن وفي كان ضمير يعود على من يقسم لأجله قريباً منا من حيث المعنى. ﴿ وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ ٱللَّهِ ﴾ معطوف على قوله: ﴿ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً ﴾ فيكون من جملة المقسم عليه، وأضاف الشهادة إلى الله لأنه تعالى هو الآمر بإِقامتها الناهي عن كتمانها. وقرأ الأعمش وابن محيصن لملائمين بإِدغام نون من في لام الآثمين بعد حذف الهمزة ونقل حركتها إلى اللام وإذا هاهنا تؤدي معنى الشرط والمعنى وإنا إن اشترينا أو كتمنا لمن الآثمين.


الصفحة التالية
Icon