﴿ فَإِنْ عُثِرَ ﴾ أي فإِن اطلع بعد حلفهما. ﴿ عَلَىٰ أَنَّهُمَا ٱسْتَحَقَّآ إِثْماً ﴾ أي ذنباً بحنثهما في اليمين بأنها ليست مطابقة للواقع. ﴿ فَآخَرَانِ ﴾ أي رجلان آخران. ﴿ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا ﴾ أي مقام ذينك الرجلين اللذين استحقا إثماً بما ظهر عليهما من خيانتهما في الجام يقومان مقامهما في الإِيمان أنهما يستحقان ذلك الجام ويكونان من الورثة لمال الميت الذي كان مسافراً. وقرىء استحق عليهم مبني للمفعول أي استحق عليهم أي أخذ الجام الذي كان الأولان خانا فيه وكتماه عن الورثة. وقرىء استحق مبنياً للفاعل أي استحق الأولان أخذه بخيانتها. وقرىء الأولين صفة للذين ويريد به الوارث لأنهم أوّلون باعتبار استحقاق المال والآخران المعثور على خيانتهما آخران. وقرىء الأوْليان على إضمار مبتدأ محذوف أي الآخران القائمان مقام الأولين اللذين كتما الجام تقديره هما الأوليان. ﴿ فَيُقْسِمَانِ بِٱللَّهِ لَشَهَادَتُنَا ﴾ أي لإِيماننا أن الجام مما نستحقه أحق من شهادة ذينك الأولين ويريد بالشهادة الإِيمان لأن الإِيمان تثبت بها الحقوق كما تثبت بالشهادة لشهادتنا جواب القسم.﴿ وَمَا ٱعْتَدَيْنَآ ﴾ معطوف عليه كما جاء قسم الآخرين له جوابان لا نشتري ولا نكتم كذلك جاء هاهنا جوابان لشهادتنا وما اعتدينا. ﴿ إِنَّا إِذاً ﴾ أي إن زللنا في الشهادة واعتدينا. ﴿ لَّمِنَ ٱلظَّالِمِينَ ﴾ وهذه الآية نزلت في قضية معيّنة على ما دل عليه سبب النزول في صحيح البخاري ولم تقيد شهادة العدلين بالسفر وقيدت به شهادة آخرين من غير المسلمين بقوله تعالى:﴿ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي ٱلأَرْضِ ﴾[المائدة: ١٠٦].
وثم محذوف تقديره ووضعتما أيديكما على جميع ما خلفه الميت ثم أديا ذلك للورثة فإِن ارتيب فيهما حلفا اليمين المذكور بعد الصلاة فإِن اطلع على خيانة منهما في شيء معيّن حلف الآخران على استحقاق ذلك وأخذاه وذكر في البحر تقادير من الإِعراب تطالع فيه. ﴿ ذٰلِكَ ﴾ الإِشارة إلى الحكم السابق. ولما كان الشاهدان لهما حالتان حالة يرتاب فيها إذا شهدا فإِذ ذاك يحبسان بعد الصلاة ويحلفان اليمين المشروعة في الآية وحالة يطلع فيها إذا شهدا على إثمهما بالشهادة وكذبهما في الحلف فإِذ ذاك لا يلتفت إلى إيمانكم وترد على شهود آخرين فيعمل بإِيمانهم، فقوبلت كل حالة بما يناسبها وكان العطف بأولانها لأخذ الشيئين والإِشارة بالفاسقين إلى من حرف الشهادة.﴿ يَوْمَ يَجْمَعُ ٱللَّهُ ٱلرُّسُلَ ﴾ الآية، مناسبتها لما قبلها أنه لما أخبر تعالى بالحكم في شاهدي الوصية ذكر بهذا اليوم المخوف وهو يوم القيامة فجمع بذلك بين فضيحة الدنيا وعقوبة الآخرة لمن حرف الشهادة ومن لم يتق الله تعالى. وقوله: ﴿ مَاذَآ أُجِبْتُمْ ﴾ سؤال توبيخ لأمهم لتقوم الحجة عليهم وانتصاب ماذا بأجبتم انتصاب مصدره على معنى أيّ إجابة أجبتم. كما تقول: ماذا يقوم زيد، تريد أي قيام يقوم.﴿ قَالُواْ ﴾ هو الناصب لقوله: يوم يجمع، والسؤال عن الإِجابة متضمن المجاب به. ونفيهم العلم عنهم بقوله: ﴿ لاَ عِلْمَ لَنَآ ﴾ قال ابن عباس: معناه لا علم لنا إلا علما أنت أعلم به منا. وقرىء علام بالنصب وهو على حذف الخبر لفهم المعنى، فيتم الكلام بالمقدر في قوله: إنك أنت، أي إنك الموصوف بأوصافك المعروفة من العلم وغيره. قال الزمخشري: ثم نصب علام الغيوب على الاختصاص أو على النداء وهو صفة لإِسم إنّ. " انتهى ". وهذا الوجه الأخير لا يجوز لأنهم أجمعوا على أن ضمير المتكلم وضمير المخاطب لا يجوز أن يوصف وإنما ضمير الغائب ففيه خلاف شاذ للكسائي.﴿ إِذْ قَالَ ٱللَّهُ ﴾ إذ بدل من قوله: يوم يجمع. ﴿ يٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ﴾ وصف عيسى بقوله: ابن مريم. واحتمل عيسى أن يكون مضموماً ومفتوحاً في التقدير كما كانتا ظاهرتين في قولك: يا زيد بن عمرو، ويا زيد بن عمرو، والنعمة هنا جنس ويدل على ذلك ما عدده بعد هذا التوحيد اللفظي من النعم وأضافها إليه تنبيهاً على عظمها ونعمته عليه قد عددها هنا وفي البقرة وآل عمران ومريم وفي مواضع من القرآن ونعمته على أمة براءتها مما نسب إليها وتكفيلها لزكريا وتقبلها بقبول حسن، وما ذكر في سورة التحريم ومريم ابنة عمران إلى آخر السورة وغير ذلك. وأمر يذكر نعمة أمه لأنها نعمة صائرة إليه. و ﴿ أَيَّدتُّكَ ﴾ معناه قويتك، مشتقاً من الأيد وأيد وزنه فعل مضارعه يؤيد. قال الزمخشري: يكون على أفعَلتك. وقال ابن عطية: على وزن فاعلتك، ويظهر أن الأصل في القراءتين أأيدتك على وزن أفعلتك. ثم اختلف الاعلال والمعنى فيهما قويتك من الأيد. " انتهى ". ولو كان أفعل لكان المضارع يؤيد كمضارع آمن يؤمن. وأما من قرأ أآيد فيحتاج إلى نقل مضارعه من كلام العرب فإِن كان يؤايد فهو فاعل، وإن كان يؤيد فهو أفعل وأما قول ابن عطية في القراءتين يظهر أن وزنه أفعلتك، ثم اختلف الإِعلال فلا أفهم ما أراد بذلك.﴿ تُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِي ٱلْمَهْدِ وَكَهْلاً ﴾ تقدم تفسير نظير هذه الجمل والقراءات التي فيها والإِعراب وما لم يتقدم ذكره نذكره فنقول: جاء هنا كهيئة الطير فتنفخ فيها فتكون طائراً. قال مكي: هو في آل عمران عائد على الطائر، وفي المادة عائد على الهيئة، قال: ويصح عكس هذا. وقال غيره: الضمير المذكر عائد على الطين، قال ابن عطية: ولا يصح عود هذا الضمير لا على الطير ولا على الطين ولا على الهيئة، لأن الطير أو الطائر الذي يجيء الطين على هيئته لا نفخ فيه ألبتة وكذلك لا نفخ في هيئته الخاصة به. وكذلك الطين إنما هو الطين العام ولا نفخ في ذلك انتهى. وقال الزمخشري: ولا يرجع يعني الضمير إلى الهيئة المضاف إليها لأنها ليست من خلقه ولا نفخه في شيء وكذلك الضمير في فتكون." انتهى ". والذي ينبغي أن يحمل عليه كلام مكي أنه لا يريد به ما فهم عند بل يكون قوله: عائد على الطائر، لا يريد به الطائر المضاف إليه لهيئة بل الطائر الذي صوره عيسى ويكون التقدير وإذ تخلق من الطين طائراً صورته مثل صورة الطائر الحقيقي فتفنخ فيه فيكون طائراً حقيقة بإِذن الله ويكون قوله: عائد على الهيئة، لا يريد به الهيئة المضافة إلى الطائر بل الهيئة التي تكون الكاف صفة لها، ويكون التقدير وإذ تخلق من الطين هيئة مثل هيئة الطير فتنفخ فيها أي في الهيئة الموصوف بالكاف المنسوب خلقها إلى عيسى.﴿ وَإِذْ تُخْرِجُ ٱلْمَوتَىٰ ﴾ أي تحيي الموتى. فعبّر بالإِخراج عن الإِحياء كقوله تعالى:﴿ كَذَلِكَ ٱلْخُرُوجُ ﴾[ق: ١١]، بعد قوله:﴿ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً ﴾[ق: ١١]، أو يكون التقدير وإذ تخرج الموتى من قبورهم أحياء. ﴿ وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ عَنكَ ﴾ أي منعتهم من قتلك حين هموا بك وأحاطوا بالبيت الذي أنت فيه. ﴿ بِٱلْبَيِّنَاتِ ﴾ والبينات هنا هي المعجزات التي تقدم ذكرها وظهرت على يديه ولما فصل تعالى نعمته ذكر ذلك منسوباً لعيسى عليه السلام دون أمّه لأن من هذه النعم نعمة النبوة وظهور هذه الخوارق فنعمته عليه أعظم منها على أمة فخص بالذكر أعظم النعمتين ولأن جميع ما وصف به عيسى هو فخر لأمه إذ ولدت مثل هذا النبي الكريم. وقال الشاعر: شهد العوالم أنها لنجيبة   بدليل ما ولدت من النجباء.﴿ فَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ﴾ قرىء ساحر بالألف هنا وفي هود، والصق، فهذا إشارة إلى عيسى. وقرىء سحر فهذا إشارة إلى ما جاء به عيسى من البينات. ويجوز أن يكون قوله: هذا، إشارة إلى عيسى. ويكون قوله: سحر، أي ذو سحر فيكون على حذف مضاف أو جعلوا عيسى سحراً على سبيل المبالغة.


الصفحة التالية
Icon