﴿ وَإِذِ ٱسْتَسْقَىٰ مُوسَىٰ ﴾ طلب السقيا وهذا هو الانعام التاسع ومفعول استسقى محذوف أي ربه كما قال: إذ استسقاه قومه أي طلبوا منه السقيا فعداه إلى المستسقى منه وجاء معدي إلى المستسقي. قال الشاعر:" وأبيض يستسقى الغمام بوجهه " فاحتمل أن يكون المحذوف ماء والاستسقاء يدل على فقدهم الماء أو قلته بحيث لا يكفيهم وثم محذوف أي إذا عطشوا.﴿ فَقُلْنَا ٱضْرِب بِّعَصَاكَ ٱلْحَجَرَ ﴾ أي فامتثل الأمر فضرب وفي هذا دليل على قدرة الصانع وإثبات نبوة موسى عليه السلام إذ هو خارق عظيم والاضافة في بعصاك إشعار بأنها التي كان يلازمها، ولعلها التي سأله الله تعالى عنها في قوله:﴿ وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ﴾[طه: ١٧].
والظاهر أن ألْ في الحجر للعهد قيل كان حجراً معيناً حمله معه من الطور. وقيل: ألْ للجنس فأي حجر ضرب. وفي وصفه ومن أي شيء كان أقوال مضطربة.﴿ فَٱنفَجَرَتْ ﴾ معطوف على ذلك المحذوف أي فضربت فانفجرت ودعوى إن فاء فانفجرت هي فاء فضرب فحذف ضرب لدلالة فائه عليه وحذفت فاء. فانفجرت لدلالة انفجرت عليها تخرص على العرب بغير دليل. (وزعم) الزمخشري أن الفاء ليست للعطف بل هي جواب شرط محذوف، كأنه قال: فإِن ضربت فقد انفجرت كما ذكرنا في قوله:﴿ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ﴾[البقرة: ٥٤]، وهي على هذا فاء فصيحة لا تقع إلاّ في كلام فصيح. انتهى. كلامه. وتقدم ردنا عليه ذلك في قوله:﴿ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ﴾[البقرة: ٥٤].
ورددنا عليه هنا في الكتاب الكبير في تقديره بعد الفاء قد أي فقد تاب عليكم فقد انفجرت، والظاهر أن معنى انفجرت وانبجست واحد إذ هي قصة واحدة. وقيل: الانفجار اتساع الماء وكثرته وانبجاسه رشحه وأول خروجه ومن في. منه لابتداء الغاية والضمير عائد على الحجر وفيه من الاعجاز ظهور الماء من حجر لا اتصال له بالأرض فتكون مادته منها وخروجه كثيراً من حجر صغير وبقدر حاجتهم وعند الضرب بالعصا وانقطاعه عند الاستغناء عنه وعدد عيونه على عدد الاسباط. وقرىء عشرة بسكون الشين وكسرها وفتحها. و ﴿ ٱثْنَتَا ﴾ معرب. و ﴿ عَشْرَةَ ﴾ مبني في موضع خفص بالاضافة.﴿ عَيْناً ﴾ تمييز لازم الافراد وأجاز الفراء في مثل هذا جمعه.﴿ قَدْ عَلِمَ ﴾ أي عرف.﴿ كُلُّ أُنَاسٍ ﴾ أي من قومه الذين استسقى لهم.﴿ مَّشْرَبَهُمْ ﴾ أي العين الذي هو مشرب أي مكان شربه فلا يتعداه إلى عين غيرها والاضافة في مشربهم تدل على التخصيص وأعاد الضمير على معنى كل لا على لفظه فلا يجوز مشربه، والمعنى: مشربهم من تلك الأعين. وذكر المشرب تنبيه على المنفعة العظيمة التي هي سبب الحياة.﴿ كُلُواْ وَٱشْرَبُواْ ﴾ أمر إباحة.﴿ مِن رِّزْقِ ٱللَّهِ ﴾ من للابتداء أو للتبعيض ولما كان من غير تعب أضيف إلى الله ويتعلق من بقوله:﴿ وَٱشْرَبُواْ ﴾، على أعمال الثاني. والرزق المرزوق وهو المن والسلوى والمشروب من ماء العيون ولما كان قد تهيأ لهم المأكول والمشروب من غير تعب نهوا عن الفساد إذ كان ذلك مما ما قد يدعو إلى الفساد. كما قال الشاعر: ان الشباب والفراغ والجدَةْ مفسدة للمرء أي مفسدَهْ. والعثي أشد الفساد. ويقال: عثا يعثو وعثى يعثى عثياً فهو مما لامه ياء وواو." ومفسدين " حال مؤكدة. ولما سئموا من أكل طعام واحد مالوا إلى أكل ما كانوا ألفوه من اختلاف المأكل، قالوا:﴿ لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ ﴾ وسألوه أن يدعو الله لهم إذ كان سؤال النبي أقرب للإِجابة ولما كان ما يأكلونه لا يتبدل وصفوه بأنه طعام واحد ومتعلق الدعاء محذوف أي بأن يخرج لنا كذا ولفظة " ربك " تدل على الاختصاص به لما كان فيه من المناجاة وإنزال التوراة عليه.﴿ مِمَّا تُنْبِتُ ٱلأَرْضُ ﴾ من تبعيضية.﴿ مِن بَقْلِهَا ﴾ بدل أعيد معه الجار وأسند الانبات إلى الأرض مجازاً لما كان الله جعل فيها قابلية الإِنبات، والبدل من التبعيض تبعيض. وفي البحران المهدوي وابن عطية وأبا البقاء قالوا: إن من في من بقلها لبيان الجنس، والبقل النعناع والكرفس والكراث وأشباهها. والقثاء معروف، وقرىء - بكسر القاف وضمها. والفوم: الثوم وقراءة عبد الله وثومها - بالثاء - فاحتمل أن يكون مما أبدلت ثاؤه فاء واحتمل أن يكون مادة أخرى. والهمزة في ﴿ أَتَسْتَبْدِلُونَ ﴾ للإِنكار أي أتعتاضون واستفعل هنا للطلب أي أتطلبون تبديل الذي هو أدنى والمنصوب هو الحاصل والذي تدخل عليه الباء هو الزائل. وأدنى أفعل تفضيل من الدنو أي أقرب. قيل: أو من الدون وهو الرديء فقلب أو أصله أدنأ فسهلت همزته بإِبدالها ألفاً من الدناءة، وقد قرىء بالهمز فلم يقيد الأدنوية والخيرية إذ معلوم ثبوت الخيرية لما كانوا فيه، وثبوت الأدنوية لما سألوه، والضمير في: قال لموسى، أي فدعا فأجابه الله تعالى لما دعاه فقال: أي موسى بإِذن الله أو الله تعالى.﴿ ٱهْبِطُواْ مِصْراً ﴾ وقرىء بالتنوين أي من الأمصار وبغير تنوين بدليل أنهم سكنوا الشام بعد التيه وبغير تنوين على أنها مصر المعروفة دار فرعون.﴿ فَإِنَّ لَكُمْ ﴾ أي فيها.﴿ مَّا سَأَلْتُمْ ﴾ وقرىء سألتم بكسر السين وهو من تداخل اللغتين أي من البقول والحبوب.﴿ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذِّلَّةُ وَٱلْمَسْكَنَةُ ﴾ أي الزموا ذلك من قولهم ضرب الأمير البعث على الجيش، فالذلة بما الزموا من الجزية وإظهار الزيّ المخالف لزيّ المسلمين، والمسكنة: الخشوع والتطامن والفقر والشج، ولم تكن الجزية مضروبة عليهم من أول أمرهم فيكون من الاخبار بالغيب إذ كان ذلك في ملة الرسول عليه الصلاة والسلام ضربت عليهم الجزية. وقيل: الذلة كونهم ذليلين في أنفسهم ليس فيهم من الشهامة ما يقاتلون بها من عاداهم ألا ترى إلى قولهم: اذهب أنت وربك فقاتلا. وقوله:﴿ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ ٱلْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ ﴾[البقرة: ٢٤٦].
﴿ وَبَآءُو بِغَضَبٍ ﴾ ارجعوا فالباء للحال أو استحقوا فالباء صلة زائدة أو نزلوا وتمكنوا فالباء ظرفية. والغضب هنا ما حل بهم من البلاء والنقم.﴿ مِّنَ ٱللَّهِ ﴾ متعلق بباء أو بمحذوف في موضع الصفة وبكونه.﴿ مِّنَ ٱللَّهِ ﴾ فيه تعظيم للغضب.﴿ ذَلِكَ ﴾ إشارة إلى الضرب والمباءة وهو مبتدأ خبره " بأنهم " أي كائن بكفرهم والباء للسبب.﴿ كَانُواْ يَكْفُرُونَ ﴾ أي في حالهم السابقة. و ﴿ بِآيَاتِ ٱللَّهِ ﴾ أي التي أظهرها على يد أنبيائه موسى وغيره ممن سبق كالمعجزات التسع والتوراة.﴿ وَيَقْتُلُونَ ٱلنَّبِيِّينَ ﴾ يحيى وشعيا وزكريا، وقرىء بتاء الخطاب فيكون التفاتًا وبالتشديد مع الياء دلالة على التكثير. فقيل: قتلوا ثلثمائة، وقيل: سبعين.﴿ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ ﴾ ليس احتراز بل لا يقع قتل بني إلا بغير الحق فهو قيد لازم، نحو: دعوت الله سميعاً وجاء شنيعاً عليهم أي لم يدّعوا وجهاً في القتل.﴿ ذٰلِكَ بِمَا عَصَواْ ﴾ تأكيد للجملة قبله أو الحامل على الكفر والقتل هو سوء عصيانهم واعتدائهم إذ المعاصي بريد الكفر قابل الضرب والمباءة بالكفر والقتل وقابل الكفر والقتل بالعصيان والاعتداء، وألْ في النبيين للعهد في من قتلوا أو للجنس وفي بغير الحق كذلك أي الحق الذي من شأنه أن يقع القتل أو لتعريف الماهية.