﴿ وَهُوَ ٱلَّذِي يَتَوَفَّٰكُم بِٱلَّيلِ ﴾ الآية، مناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما ذكر استئثاره بالعلم التام للكليات والجزئيات ذكر استئثاره بالقدرة التامة تنبيهاً على ما تختص به الإِلهية ذكر شيئاً محسوساً قاهراً للأنام وهو التوفي بالليل والبعث بالنهار، وكلاهما ليس للإِنسان فيه قدرة؛ بل هو أمر يوقعه الله تعالى بالإِنسان. والتوفي عبارة في العرف عن الموت، وهنا المعنى به النوم على سبيل المجاز للعلاقة التي بينه وبين الموت وهي زوال إحساسه ومعرفته وفكره. و ﴿ جَرَحْتُم ﴾ كسبتم. ومنه جوارح الطير أي كواسبها. واجترحوا السيئات: اكتسبوها. والمراد منه أعمال الجوارح. ومنه قيل: للأعضاء جوارح. والضمير في فيه عائد على النهار، وقضاء الأجل فصل مدة العمر من غيرها. و ﴿ مُّسَمًّى ﴾ أي في علم الله تعالى.﴿ ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ﴾ وهو المرجع إلى موقف الحساب.﴿ وَهُوَ ٱلْقَاهِرُ ﴾ الآية، تقدم الكلام عليها.﴿ وَيُرْسِلُ ﴾ ظاهره أن يكون معطوفاً على وهو القاهر عطف جملة فعلية على جملة إسمية وهي من آثار القهر. و ﴿ عَلَيْكُم ﴾ ظاهره أنه متعلق بيرسل كقوله تعالى:﴿ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ ﴾[الرحمن: ٣٥].
ولفظة عليكم مشعرة بالعلو والاستيلاء لتمكنهم منا جعلوا كان ذلك علينا، وجوزوا أن يكون متعلقاً بحفظة أي حافظين عليكم. وحفظة: جمع حافظ، وهو قياس مطرد في فاعل كقولهم: بارّ وبررة.﴿ حَتَّىٰ إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ ﴾ أي أسباب الموت.﴿ تَوَفَّتْهُ ﴾ قبضت روحه.﴿ رُسُلُنَا ﴾ جاء جمعاً فعني به ملك الموت وأعوانه. والظاهر أن الرسل هنا غير الحفظة ولا تعارض بين قوله:﴿ ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلأَنفُسَ حِينَ مَوْتِـهَا ﴾[الزمر: ٤٢] وبين قوله:﴿ قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ ٱلْمَوْتِ ﴾[السجدة: ١١] وبين قوله: توفته رسلنا، لأن نسبة ذلك إلى الله تعالى بالحقيقة ولغيره بالمباشرة.﴿ وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ ﴾ جملة حالية. والعامل فيها توفته أو استئنافية أخبر عنهم بأنهم لا يفرطون في شىء مما أمروا به من الحفظ والتوفي.﴿ ثُمَّ رُدُّوۤاْ ﴾ الظاهر عود الضمير على العباد وانتقل من ضمير الخطاب في عليكم إلى ضمير الغيبة في ردّوا. وفاعل الردّ المحذوف هو الله تعالى كان الأصل ثم ردّهم الله. وقرىء: ردّوا بكسر الراء أصله رددوا، أتبعت حركة الراء لحركة الدال ثم سكنت الدال للإِدغام، فقيل: ردوا، كما قرىء ردّت إلينا في سورة يوسف. وظاهر الأخبار بالرد إلى الله أنه يزاد به البعث والرجوع إلى حكم الله وجزائه يوم القيامة، ويدل عليه آخر الآية. ومولاهم: فيه اشعار بإِحسانه تعالى إليهم إذ مولاهم هو سيدهم وهم عبيده، ووصفه تعالى بالحق معناه العدل أي الذي لا يحكم إلا بالحق.﴿ أَلاَ لَهُ ٱلْحُكْمُ ﴾ تنبيه منه تعالى عباده بأن أنواع التصرفات جميعها له.﴿ وَهُوَ أَسْرَعُ ٱلْحَاسِبِينَ ﴾ تقدم الكلام عليه في سرعة حسابه تعالى في قوله:﴿ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ ﴾[البقرة: ٢٠٢، النور: ٣٩].
﴿ قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ ﴾ الآية، لما تقدم ذكره تعالى دلائل على ألوهيته من العلم التام والقدرة الكاملة، ذكر نوعاً من أثرهما وهو الإِنجاء من الشدائد، وهو استفهام يراد به التقرير والإِنكار والتوبيخ والتوقيف على سوء معتقد من عبد الأصنام وترك الذي ينجي من الشدائد ويلجأ إليه في كشفها. والظلمات: أريد بها حقيقة الظلمة، وجمعت باعتبار مواردها ففي البر والبحر ظلمة الليل وظلمة السحاب وظلمة الصواعق، وفي البر أيضاً ظلمة الغبار وظلمة الغيم وظلمة الريح، وفي البحر أيضاً ظلمة الأمواج، ويكون ذلك على حذف مضاف التقدير من مهالك ظلمة البر والبحر ومخاوفهما. وأكثر المفسرين على أن الظلمات مجاز عن شدائد البر والبحر ومخاوفهما وأهوالهما. والعرب تقول: يوم أسود، ويوم مظلم، ويوم ذو كواكب. و ﴿ تَدْعُونَهُ ﴾ جملة حالية. وذو الحال ضمير الخطاب أي تنادونه مظهري الحاجة إليه ومخفيها. والتضرع وصف باد على الإِنسان. والخفية: الإِخفاء. وقال الحسن: تضرعاً: علانية. وخفية أي نية، وانتصبا على المصدر أي تتضرعون تضرعاً وتخفون خفية.﴿ لَّئِنْ أَنجَانَا ﴾ قبله قسم محذوف، واللام هي الموطئة لجواب القسم وهو لنكونن. والإِشارة بهذه إلى الظلمات. وأن شرطية بعد اللام وجوابها محذوف لدلالة جواب القسم عليه.﴿ قُلِ ٱللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِّنْهَا ﴾ الضمير في منها عائد على ما أشير إليه بقوله: من هذه، ومن كل معطوف على الضمير المجرور وأعيد معه الخافض، وأمره تعالى بالمسابقة إلى الجواب ليكون هو صلى الله عليه وسلم أسبق إلى الخير وإلى الاعتراف بالحق. ثم ذكر أنه تعالى ينجي من هذه الشدائد التي حضرتهم.﴿ وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ﴾ فعم بعد التحضيض ثم ذكر قبح ما يأتون به بعد ذلك وبعد إفراده بالدعاء والتضرع ووعدهم إياه بالشكر من إشراكهم معه في العبادة غيره. قال ابن عطية: وعطف بثم للمهلة التي تبين قبح فعلهم أي ثم بعد معرفتكم بهذا كله، وتحققه أنتم تشركون. " انتهى ".