﴿ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ ﴾ الآية لما أخبر تعالى بوعيد الكفار أخبر بوعد المؤمنين. وخبر والذين الجملة من لا نكلف نفساً أي منهم أو الجملة من أولئك وما بعده وتكون جملة لا نكلف اعتراضاً بين المبتدأ والخبر. وفائدته أنه ذكر قوله: وعملوا الصالحات، نبه على أن ذلك العمل وسعهم وغير خارج عن قدرتهم وفيه تنبيه للكفار على أن الجنة مع عظم محلها يوصل إليها بالعمل السهل من غير مشقة.﴿ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ ﴾ الغل: الحقد والأحنة الخفية في النفس وجمعها غلال ومنه الغلول: أخذ الشىء في خفاء. ونزعنا أي أذهبنا في الجنة ما انطوت عليه صدورهم من الحقود ونزع الغل في الجنة أن لا يحسد بعضهم بعضاً في تفاضل منازلهم وكني بالصدر عن الشخص، والذي يظهر أن النزع للغل كناية عن خلقهم في الآخرة سالمي القلوب طاهريها متوادين متعاطفين كما قال:﴿ إِخْوَٰناً عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَـٰبِلِينَ ﴾[الحجر: ٤٧]، وتجري حال، قاله الحوفي قال: والعامل فيه نزعنا. وقال أبو البقاء: حال والعامل فيها معنى الإِضافة، وكلا القولين لا يصح لأن تجري ليس من صفات الفاعل الذي هو ضمير نزعنا ولا من صفات المفعول الذي هو ما في صدورهم ولأن معنى الإِضافة لا يعمل إلا إذا كانت إضافة يمكن للمضاف أن يعمل إذا جرد من الإِضافة رفعاً ونصباً فيما بعده. والظاهر أنه خبر مستأنف عن صفة حالهم.﴿ وَقَالُواْ ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي هَدَانَا لِهَـٰذَا ﴾ أي وفقنا لتحصيل هذا النعيم الذي صرنا إليه بالإِيمان والعمل الصالح إذ هو نعمة عظيمة يجب عليهم بها حمده تعالى والثناء عليه.﴿ وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ ﴾ قرىء: ما كنا وقرىء: وما كنا. ومعنى لنهتدي أي من ذوات أنفسنا.﴿ لَوْلاۤ أَنْ هَدَانَا ٱللَّهُ ﴾ وجواب لولا الجملة قبلها وهو وما كنا لنهتدي ولا ينكر تقديم جواب لولا عليها ألا ترى إلى قوله تعالى:﴿ إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلاۤ أَن رَّبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا ﴾[القصص: ١٠].
وقوله:﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاۤ أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ ﴾[يوسف: ٢٤].
وإن كان الأكثر في لسان العرب تأخير جواب لولا كقوله تعالى:﴿ وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ﴾[النساء: ٨٣] ما زكى. وان هدانا في موضع رفع بالابتداء تقديره لولا هداية الله إيانا.﴿ لَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِٱلْحَقِّ ﴾ أي لموعود الذي وعدونا في الدنيا قضوا بأن ذلك حق قضاء مشاهدة بالحس وكانوا في الدنيا يقضون بذلك قضاء استدلال.﴿ وَنُودُوۤاْ ﴾ يحتمل أن يكون النداء من الله تعالى وهو أسر لقلوبهم وأرفع لقدرهم ويحتمل أن يكون من الملائكة وأن يحتمل أن تكون المخففة من الثقيلة أي ونودوا بأنه تلكم الجنة واسمها ضمير الشأن يحذف إذا خففت. ويحتمل أن تكون ان مفسرة لوجود شرطيها وهما أن يكون قبلها جملة في معنى القول وبعدها جملة. وكأنه قيل: تلكم الجنة، وتلكم إسم إشارة والذي بعدها خطاب للجماعة، والمعنى أن البعد فيها باعتبار سبق الوعد بها في الدنيا. والجنة صفة لتلكم وأورثتموها خبر عن تلكم والهمزة في أورثتموها بدل من واو بدلاً جائزاً لأن أصل المادة الواو والراء والثاء تقول ورث يرث، ولو قرىء وأوْرثتموها لكان عربياً لأن فاعل من ذوات الواو نحو: وأرى إذا بنيت للمفعول يجوز أن تبدل واوه همزة فتقول: أُوري وأصله وُوْري.﴿ وَنَادَىۤ أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ ﴾ عبر بالماضي عن المستقبل لتحقق وقوعه وهذا النداء فيه تقريع وتوبيخ وتوقيف على مآل الفريقين وزيادة في كرب أهل النار بأن يشرف عليهم أهل الجنة ويخلق إدراك أهل النار لذلك النداء في أسماعهم. وأتى في إخبار أهل الجنة ما وعدنا بذكر المفعول، وفي قصة أهل النار على ما وعدكم بذكر المفعول وعدلان أهل الجنة مستبشرون بحصول موعودهم فذكروا ما وعدهم الله تعالى مضافاً إليهم ولم يذكروا حين سألوا أهل الجنة متعلق ما وعدهم باسم الخطاب فيقولوا: ما وعدكم ليشمل كل موعود من عذاب أهل النار ونعيم أهل الجنة وتكون إجابتهم بنعم تصديقاً لجميع ما وعد الله تعالى بوقوعه في الآخرة للصنفين ويكون ذلك اعترافاً منهم بحصول موعود المؤمنين ليتحسروا على ما فاتهم من نعيمهم، إذ نعيم أهل الجنة مما يحزنهم ويزيد في عذابهم. وأنْ يحتمل أن تكون تفسيرية، وأن تكون مصدرية مخففة من أن الثقيلة وإذا ولى المخففة فعل متصرف غير دعاء فصل بينهما بقد في الأجود كقوله: إن قد وجدنا.﴿ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ ﴾ أي أعلم معلم وأبهم تعالى من المؤذن فقيل: هو اسرافيل صاحب الصور وقيل غيره. بينهم ظرف لإِذن معمول له. والضمير في بينهم عائد على الفريقين. وان المخففة من الثقيلة أو مفسرة. و ﴿ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً ﴾ تقدم تفسير مثله. وهذا الوصف بالموصول هو حكاية عن حالهم السابقة والمعنى الذين كانوا يصدون لأنهم وقت الآذان لم يكونوا متصفين بهذا الوصف والمعنى بالظالمين الكفار، بدليل قوله: وهم بالآخرون كافرون، لأن الفاسق ليس كافراً بالآخرة بل مؤمن مصدق بها.﴿ وَيَبْغُونَهَا ﴾ أي يبغون لها. والضمير عائد على السبيل، والسبيل يذكر ويؤنث.﴿ وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ ﴾ أي بين الفريقين لأنهم المحدث عنهم. وهو الظاهر. وقيل: بين الجنة والنار وبهذا بدأ الزمخشري وابن عطية وفسر الحجاب بأنه المعني بقوله تعالى:﴿ فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ ﴾[الحديد: ١٣].
وقال ابن عباس: ويقوي أنه بين الفريقين لفظ بينهم، إذ هو ضمير العقلاء ولا يحيل ضرب السور بعد ما بين الجنة والنار وإن كانت تلك السماء والنار أسفل السافلين.﴿ وَعَلَى ٱلأَعْرَافِ رِجَالٌ ﴾ الاعراف جمع عرف وهو المرتفع من الأرض. قال الشماخ: فظلت باعراف تعالى كأنها   رماح نحاها وجهة الريح راكزومنه عرف الفرس وعرف الديك لعلوهما. وقال ابن عباس: الأعراف تل بين الجنة والنار.﴿ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ ﴾ أي كلاً من فريقي الجنة والنار بعلامتهم التي ميزهم الله تعالى بها من ابيضاض وجوه واسوداد وجوه في هذه الجملة التجنيس المغاير وهو أن يكون إحدى الكلمتين إسماً والأخرى فعلاً فالاعراف اسم ويعرفون فعل والرجال قوم تساوت حسناتهم وسيآتهم وقفوا هنالك ما شاء الله تعالى لم تبلغ حسناتهم بهم دخول الجنة ولا سيئآتهم دخول النار. وروي في مسند ابن أبي خيثمة عن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث فيه قيل:" يا رسول الله فمن استوت حسناته وسيئاته؟ قال: أولئك أصحاب الأعراف لم يدخلوها وهم يطمعون ".﴿ وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ ٱلْجَنَّةِ ﴾ الضمير في نادوا عائد على رجال. وانْ تفسيرية او مخففة من الثقيلة كما تقدم. و ﴿ لَمْ يَدْخُلُوهَا ﴾ جملة حالية العامل فيها، نادوا أي نادوا غير داخلي الجنة.﴿ وَهُمْ يَطْمَعُونَ ﴾ جملة حالية أيضاً أي يطمعون في دخولها وأجاز الزمخشري أن يكون لم يدخلوها وهم يطمعون صفة لرجال وهو بعيد للفصل بين الموصوف والصفة بجملة ونادوا وليست جملة اعتراض.


الصفحة التالية
Icon