﴿ قَالَ يٰمُوسَىٰ إِنِّي ٱصْطَفَيْتُكَ ﴾ لما طلب موسى عليه السلام الرؤية ومنعها عدد تعالى وجود نعمه العظيمة عليه وأمره أن يشتغل بشكرها وهذه تسلية منه تعالى له. و ﴿ عَلَى ٱلنَّاسِ ﴾ لفظ عام ومعناه الخصوص أي على أهل زمانك، وقدم ﴿ بِرِسَالاَتِي ﴾ على و ﴿ بِكَلاَمِي ﴾ لأن الرسالة أسبق في الزمان، أو لأنه انتقل من شريف إلى أشرف وأمره تعالى بأن يأخذ ما آتاه من النبوة لأن في الأمر بالأخذ مزيد تأكيد وحصول أجر بالامتثال، والمعنى خذ ما آتيتك باجتهاد في تبليغه وجد في النفع به.﴿ وَكُنْ مِّنَ ٱلشَّاكِرِينَ ﴾ على ما آتيناك وفي ذلك إشارة إلى القنع والرضى بما أعطاه الله تعالى والشكر عليه.﴿ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي ٱلأَلْوَاحِ ﴾ أي أمرنا له بالكتابة، فأضاف الكتابة إلى نفسه تعالى لما كان آمراً بالكتابة، والضمير في له عائد على موسى والألواح جمع قلة والألف واللام فيها للعهد إذ عني بها ألواح موسى عليه السلام. قيل: والضمير نابت عنه الألف واللام أي في ألواحه.﴿ مِن كُلِّ شَيْءٍ ﴾ محتاج إليه في شريعتهم.﴿ مَّوْعِظَةً ﴾ للازدجار والاعتبار.﴿ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ ﴾ من التكاليف الحلال والحرام والأمر والنهي والقصص والعقائد والاخبار بالمغيبات.﴿ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ ﴾ الظاهر أن الضمير في خذها عائد على الألواح. ومعنى بقوة قال ابن عباس: بجد واجتهاد فعل أولي العزم. وقال أيضاً: أمر أن يأخذ بأشد مما أمر به قومه. وقوله: ﴿ بِأَحْسَنِهَا ﴾ ظاهره أنه أفعل التفضيل وفيها الحسن والأحسن كالقصاص والعفو والانتصار والصبر.﴿ سَأُوْرِيكُمْ ﴾ الإراءة هنا من رؤية العين، ولذلك تعدت إلى اثنين. و ﴿ دَارَ ٱلْفَاسِقِينَ ﴾ هي مصر وثم حال محذوفة تقديره مُدمرة. ألا ترى إلى قوله:﴿ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ ﴾[الأعراف: ١٣٧].
قال الزمخشري: كيف أقفرت منهم ودمروا لفسقهم لتعتبروا فلا تفسقوا مثل فسقهم فينكل بكم مثل نكالهم. " انتهى ". وقرأ الحسن سأوْريكم بواو ساكنة بعد الهمزة على ما يقتضيه رسم المصحف ووجهت همزة القراءة بوجهين: أحدهما، ما ذكره أبو الفتح وهو أنه أشبع الضمة ومطها فنشأ عنها الواو. وقال ويحسّن احتمال الواو، وقال: ويحسّن احتمال الواو في هذا الموضع أنه موضع وعيد وإغلاظ فمكن الصوت فيه. " انتهى ". فيكون كقوله: أدنو فانظور، أي فانظر، وهذا التوجيه ضعيف لأن الاشباع بابه ضرورة الشعر. والثاني، ما ذكره الزمخشري قال: وقرأ الحسن سأوريكم وهي لغة فاشية بالحجاز. يقال: أوْرني كذا وأوريته فوجهه أن يكون من أوريته الزَنْد كان المعنى بيّنه لي وأنِرْهُ لأستبينه. " انتهى ". وهي أيضاً في لغة أهل الأندلس كأنهم تلقفوها من لغة الحجاز وبقيت في لسانهم إلى الآن وينبغي أن ينظر في تحقيق هذه اللغة أهي في لغة الحجاز أم لا. وقرأ ابن عباس وقسامة بن زهير سأورْتَكم. قال الزمخشري: وهي قراءة حسنة يصححها قوله تعالى:﴿ وَأَوْرَثْنَا ٱلْقَوْمَ ٱلَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ ﴾[الأعراف: ١٣٧].
﴿ سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي ﴾ لما ذكر سأوريكم دار الفاسقين ذكر ما يفعل بهم من صرفه إياهم عن آياته لفسقهم وخروجهم عن طورهم إلى وصف ليس لهم. ثم ذكر تعالى من أحوالهم ما استحقوا به اسم الفسق.﴿ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا ﴾ صرفهم هذا الوصف الذميم وهو التكبر عن الإِيمان حتى لو عرضت عليهم كل آية لم يروها آية فيؤمنوا بها وهذا حتم منه تعالى على الطائفة التي قدر أن لا يؤمنوا.﴿ وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ ٱلرُّشْدِ ﴾ الآية أراهم الله تعالى السبيلين فرأوهما فآثروا الغي على الرشد، كقوله تعالى:﴿ فَٱسْتَحَبُّواْ ٱلْعَمَىٰ عَلَى ٱلْهُدَىٰ ﴾[فصلت: ١٧].
﴿ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا ﴾ أي ذلك الصرف عن الآيات هو بسبب تكذيبهم بها وغفلتهم عن النظر فيها والتفكر في دلالتها، والمعنى أنهم استمر تكذيبهم وصار لهم ذلك دَيْدَنا حتى صارت تلك الآيات لا تَخطُر لهم ببال فحصلت الغفلة عنها والنسيان لها حتى كانوا لا يذكرونها ولا شيئاً منها. والظاهر أن الصرف سببه التكذيب والغفلة من جميعهم، ويحتمل أن الصرف سببه التكذيب. ويكون قوله: ﴿ وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ ﴾ إستئناف أخبار منه تعالى عنهم أي من شأنهم أنهم كانوا غافلين عن الآيات وتدبرها فأورثتهم الغفلة التكذيب بها. والظاهر أن ذلك مبتدأ وخبره بأنهم أي ذلك الصرف كائن بأنهم كذبوا. وجوزوا أن يكون منصوباً فقدره ابن عطية فعلنا ذلك، وقدره الزمخشري صرفهم الله تعالى ذلك الصرف بعينه.