﴿ وَٱتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَىٰ ﴾ إن كان الاتخاذ بمعنى اتخاذه إلهاً معبوداً فصح نسبته إلى القوم وذكر أنهم كلهم عبدوه غير هارون ولذلك قال: رب اغفر لي ولأخي. فقيل: إنما عبده قوم منهم لا جميعهم، لقوله:﴿ وَمِن قَوْمِ مُوسَىٰ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِٱلْحَقِّ ﴾[الأعراف: ١٥٩]، وإن كان بمعنى العمل كقوله تعالى:﴿ كَمَثَلِ ٱلْعَنكَبُوتِ ٱتَّخَذَتْ بَيْتاً ﴾[العنكبوت: ٤١]، أي عملت وصنعت. فالمتخذ إنما هو السامري واسمه موسى بن ظفر من قرية تسمى سامرة ونسب ذلك إلى قوم موسى مجازاً كما قالوا بنو تميم قتلوا فلاناً وإنما قتله واحد منهم ولكونهم راضين بذلك. ومعنى: ﴿ مِن بَعْدِهِ ﴾ أي من بعد مضيه للمناجاة. و ﴿ مِنْ حُلِيِّهِمْ ﴾ متعلق باتخذو بها يتعلق بمن بعده وإن كانا حرفي جر بلفظ واحد وجاز ذلك لاختلاف مدلوليهما لأن من الأولى لابتداء الغاية، والثانية للتبعيض. وقرىء: من حُليّهم مفرداً ومن حليهم جمعاً وأصله حلوى على وزن فعول فاجتمعت واو وياء وأدغمت فيها ثم كسر ما قبلها لنصح الياء ثم أتبعت حركة الماء لحركة اللام فقيل: حلى، كما قالوا: عصى. والعجل ولد البقرة القريب الولادة. ومعنى: ﴿ جَسَداً ﴾ جثة جماداً ليس مصوراً بالخط في حائط ولا رقماً في ثوب وكان ذلك بسبب ما كان تقدم من أنهم مروا بقوم يعبدون البقر فقالوا تلك المقالة الشنيعة.﴿ لَّهُ خُوَارٌ ﴾ ظاهره أنه قامت به الحياة ولذلك كان له خوار. وقيل: ولما صنعه السامري أجوف تحيل لتصويته بأن جعل في جوفه أنابيب على شكل مخصوص وجعله في مهب الرياح فتدخل في تلك الأنابيب فيظهر له صوت يشبه الخوار فإِذا خار سجدوا وإذا سكت رفعوا.﴿ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ ﴾ إن كان اتخذ بمعنى عمل وصنع فلا بد من تقدير محذوف يترتب عليه هذا الإِنكار وهو فعبدوه وجعلوه إلهاً لهم وإن كان المحذوف إلهاً أي اتخذوا عجلاً جسداً له خوار إلهاً فلا يحتاج إلى حذف جملة، وهذا استفهام إنكار حيث عبدوا جماداً أو حيواناً عاجزاً عليه آثار الصنعة لا يمكن أن يتكلم ولا يهدي. وقد ركز في العقول أن من كان بهذه المثابة استحال أن يكون إلهاً وهذا نوع من أنواع البلاغة يسمى الاحتجاج النظري وبعضهم يسميه المذهب الكلامي. والظاهر أن يروا بمعنى يعلموا وسلب تعالى عنه هذين الوصفين دون باقي أوصاف الإِلهية لأن انتفاء التكليم يستلزم انتفاء العلم وانتفاء الهداية إلى سبيل يستلزم انتفاء القدرة وانتفاء هذين الوصفين وهما العلم والقدرة يستلزمان انتفاء باقي الأوصاف فلذلك خص هذان الوصفان بانتفائهما.﴿ ٱتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ ﴾ أي أقدموا على ما أقدموا عليه من هذا الأمر الشنيع وكانوا واضعين الشىء في غير موضعه أي من شأنهم الظلم فليسوا مبتكرين وضع الشىء في غير موضعه.﴿ وَلَمَّا سُقِطَ فِيۤ أَيْدِيهِمْ ﴾ قال الزمخشري: لما اشتد ندمهم وحسرتهم على عبادة العجل، لأن من شأن من اشتد ندمه وحسرته أن يعضّ يده غماً فتصير يده مسقوطاً فيها لأن فاه قد وقع فيها وسقط مسند إلى، في أيديهم وهو من باب الكناية. " انتهى ". وأصل السقوط الوقوع من علو.﴿ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا ﴾ إنقطاع إلى الله تعالى واعتراف بعظيم ما أقدموا عليه، ولما كان هذا الذنب وهو اتخاذ غير الله إلهاً أعظم الذنوب بدأوا بالرحمة التي وسعت كل شىء ومن نتائجها غفران الذنب.﴿ وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ ﴾ الآية أخبره تعالى قبل رجوعه أنهم قد فتنوا بالعجل فلذلك رجع وهو غاضب. ويدل على هذا القول قوله تعالى:﴿ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ ٱلسَّامِرِيُّ ﴾[طه: ٨٥].
وغضبان صيغة مبالغة، والغضب غليان في القلب بسبب حصول ما يؤلم. و ﴿ أَسِفاً ﴾ حزيناً. والفعل من أسف يأسف.﴿ قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي ﴾ تقدم الكلام على بئسما في أوائل البقرة. ومعنى: ﴿ مِن بَعْدِيۤ ﴾ أي من بعد انفصالي عنكم للمناجاة ذمهم على عبادة غير الله تعالى. و ﴿ أَعَجِلْتُمْ ﴾ استفهام إنكار. يقال: عجل عن الأمر، إذا تركه غير تام، وأعجله عنه غيره، والمعنى أعجلتم أمر ربكم وهو انتظار موسى عليه السلام حافظين لعهده وما وصاكم به. و ﴿ أَلْقَى ٱلأَلْوَاحَ ﴾ أي ألواح التوراة وكان حاملاً لها فوضعها بالأرض غضباً على ما فعله قومه من عبادة العجل وحمية لدين الله تعالى. والظاهر أنه أخذ برأسه أي أمسك رأسه جارَّه إليه. والظاهر أن سبب هذا الأخذ هو غضبه على أخيه وكيف عبدوا العجل وهو قد استخلفه فيهم وأمره بالإِصلاح وأن لا يتبع سبيل من أفسد وكيف لم يكفهم عن ذلك.﴿ قَالَ ٱبْنَ أُمَّ ﴾ ناداه نداء استعطاف وترفق وكان شقيقه وهي عادة العرب تتلطف وتتحنن بذكر الأم كما قال: يا ابن أمي ويا شُقيّق نفسي أنت خلفتني لدهر شديدوقرىء: بكسر الميم اجتزاء بالكسرة عن الياء إذ أصله يا ابن أمي. وقرىء: يا ابن أمّ بفتح الميم اجتزاء بالفتحة عن الألف إذ أصله يا ابن أمّا والألف منقلبة عن ياء المتكلم كما قال: يا ابنة عما لا تلوحي واهجعي يريد ابنة عمي. ومعنى: ﴿ ٱسْتَضْعَفُونِي ﴾ وجدوني ضعيفاً ولما أبدى له ما كان منهم من الاستشعاف له ومقاربة قتلهم إياه سأله ترك ما يسرهم بفعله، فقال:﴿ فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ ٱلأَعْدَآءَ ﴾ أي لا تسرهم بما تفعل بي فأكون ملوماً منهم ومنك. قال الشاعر: والموت دون شماتة الأعداء ﴿ قَالَ رَبِّ ٱغْفِرْ لِي وَلأَخِي ﴾ لما اعتذر إليه أخوه استغفر لنفسه وله. قالوا: واستغفاره لنفسه بسبب فعلته مع أخيه وعجلته في إلقاء الألواح، واستغفاره لأخيه من فعلته في الصبر لبني إسرائيل.