﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ ﴾ الآية، هذه الجملة على سبيل التوكيد لما قبلها في انتفاء كون هذه الأصنام قادرة على شىء من نفع أو ضر أي ان الذين تدعونهم وتسمونهم آلهة من دون الله الذي أوجدها وأوجدكم هم عباد. وسمى الأصنام عباداً وإن كانت جمادات لأنهم كانوا يعتقدون أنها تضر وتنفع. وقال الزمخشري: عباد أمثالكم استهزاء بهم أي قصارى أمرهم أن يكونوا أحياء عقلاء فإِن ثبت ذلك فهم عباد أمثالكم لا تفاضل بينكم، ثم أبطل أن يكونوا عباداً أمثالكم فقال: ألهم أرجل يمشون بها. " انتهى ". وليس كما زعم لأنه تعالى حكم على هؤلاء المدعون من دون الله أنهم عباد أمثال الداعين. فلا يقال: في الخبر من الله تعالى فإِن ثبت ذلك لأنه ثابت، ولا يصح أن يقال: ثم أبطل أن يكونوا عباداً أمثالكم، فقال: ألهم أرجل، لأن قوله: ألهم أرجل ليس إبطالاً لقوله: عباد أمثالكم، لأن المثلية ثابتة أما في انهم مخلوقون أو في انهم مملوكون مقهورون وإنما ذلك تحقير لشأن الأصنام وإنهم دونكم في انتفاء الآلات التي أعدت للإِنتفاع بها مع ثبوت كونهم أمثالكم فيما ذكر ولا يدل إنكار هذه الآلات على انتفاء المثلية فيما ذكر، وأيضاً فالابطال لا يتصور بالنسبة إليه تعالى لأنه يدل على كذب أحد الخبرين وذلك مستحيل بالنسبة إلى الله تعالى. قرأ سعيد بن جبير أن خفيفة، وعبادا أمثالكم بنصب الدال واللام. واتفق المفسرون على تخريج هذه القراءة على أنّ إنْ هي النافية أعملت عمل ما الحجازية فرفعت الإِسم ونصبت الخبر فعباداً أمثالكم خبر منصوب قالوا: والمعنى بهذه القراءة تحقير شأن الأصنام ونفي مماثلتهم للبشر بل هم أقل وأحقر إذ هي جمادات لا تفهم ولا تعقل وأعمال ان اعمال ما الحجازية فيه خلاف، أجاز ذلك الكسائي، وأكثر الكوفيين، ومن البصريين ابن السراج والفارسي وابن جني، ومنع من أعمالها الفراء، وأكثر البصريين، واختلف النقل عن سيبويه والمبرد. والصحيح أن اعمالها لغة ثبت ذلك في النثر والنظم وقد ذكرنا ذلك مشبعاً في شرح التسهيل. وقال النحاس: هذه قراءة لا ينبغي أن يقرأ بها لثلاث جهات إحداها أنها مخالفة للسواد الثانية أن سيبويه يختار الرفع في خبر أنْ إذا كانت بمعنى ما فيقول ان نريد منطلق لأن عمل ما ضعيف وان بمعناها فتكون أضعف منها، والثالثة أن الكسائي رأى أنها في كلام العرب لا تكون بمعنى ما إلا أن يكون بعدها أيجلب. " انتهى ". وكلام النحاس هذا هو الذي لا يجوز ولا لينبغي لأنها قراءة مروية عن تابعي جليل ولها وجه في العربية، وأما ثلاث الجهات التي ذكرها فلا يقدح شىء منها في هذه القراءة، أما كونها مخالفة للسواد فهو خلاف يسير جداً لا يضر، ولعله كتب المنصوب على لغة ربيعة في الوقف على المنون المنصوب بغير ألف فلا يكون فيه مخالفة للسواد. وأما ما حكي عن سيبويه فقد اختلف الفهم عن كلام سيبويه في أن، وأما ما حكاه عن الكسائي فالنقل عن الكسائي أنه حكى أعمالها وليس بعدها إيجاب والذي يظهر لي أن هذا التخريج الذي خرجوه من أنّ انْ للنفي ليس بصحيح لأن قراءة الجمهور تدل على إثبات كون الأصنام عباداً أمثال عابديها وهذا التخريج يدل على نفي ذلك فيؤدي إلى عدم مطابقة أحد الخبرين وهو لا يجوز بالنسبة إلى الله تعالى وقد خرجت هذه القراءة على وجه غير ما ذكروه وهي أن تكون إن هي المخففة من الثقيلة واعملها عمل المشددة، وقد ثبت أنّ ان المخففة يجوز إعمالها عمل المشددة في غير المضمر بالقراءة المتواترة، وإن كلا لما وينقل سيبويه عن العرب لكنه نصب في هذه القراءة خبرها كما نصبه عمر بن أبي ربيعة في قوله انّ حراسنا أسْداً. وقد ذهب جماعة من النحاة إلى جواز نصب أخبار انّ وأخواتها واستدلوا على ذلك بشواهد ظاهرة الدلالة على صحة مذهبهم وتأولها المخالفون فهذه القراءة الشاذة تتخرج على هذه اللغة أو تؤول على تأويل المخالفين وما ورد من ذلك نحو: يا ليت أيام الصبا رواجعا   لأهل هذا المذهب وهو أنهم قالوا ان تقديره أقبلت رواجعاً فكذلك تؤولت هذه القراءة على إضمار فعل تقديره ان الذين تدعون من دون الله خلقناهم عباداً أمثالكم وتكون القراءتان قد توافقتا على معنى واحد وهو الاخبار أنهم عباد ولا يكون تناف بينهما وتخالف لا يجوز في حق الله تعالى. وقرىء: أيضاً أن مخففة، ونصب عباداً على أنه حال من الضمير المحذوف العائد من الصلة على الذين وأمثالكم بالرفع على الخبر، أن أن الذين تدعون من دون الله في حال كونهم عباداً أمثالكم في الخلق أو في الملك فلا يمكن أن يكونوا آلهة.﴿ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ ﴾ الآية، هذا استفهام إنكار وتعجب وتبيين أنهم جماد لا حراك لهم وأنهم فاقدون لهذه الأعضاء ومنافعها التي خلقت لأجلها فأنتم أفضل من هذه الأصنام إذ لكم هذا التصرف، وهذا الاستفهام الذي معناه الإِنكار قد يتوجه الإِنكار فيه إلى انتفاء هذه الأعضاء وانتفاء منافعها فيتسلط النفي على المجموع كما فسرناه لأن تصويرهم هذه الأعضاء للأصنام ليست أعضاء حقيقية وقد يتوجه النفي إلى الوصف أي وإن كانت لهم هذه الأعضاء النافعة وأم هنا منقطعة فتتقدر ببل والهمزة وهو إضراب على معنى الانتقال لا على معنى الإِبطال وإنما هو تقدير على نفي كل واحدة من هذه الجمل وكان ترتيب هذه الجمل هكذا لأنه بدىء بالأهم ثم اتبع بما دونه إلى آخرها.﴿ قُلِ ٱدْعُواْ شُرَكَآءَكُمْ ﴾ الآية لما أنكر تعالى عليهم عبادة الأصنام وحقّر شأنها وأظهر كونها جماداً عارية عن شىء من القدرة أمر تعالى نبيه عليه السلام أن يقول لهم ذلك أي لا مبالاة بكم ولا بشركائكم فاصنعوا ما تشاؤون وهو أمر تعجيز، أي لا يمكن أن يقع منكم دعاء لأصنامكم ولا كيد لي وكانوا قد خوّفوه آلهتهم ومعنى ادعوا شركاءكم استعينوا بهم على إيصال الضر إليّ.﴿ ثُمَّ كِيدُونِ ﴾ أي امكروا بي ولا تؤخرون عمّا تريدون بي من الضر. وسمى الأصنام شركاءهم من حيث لهم نسبة إليهم بتسميتهم إياهم آلهة وشركاء لله، تعالى الله عن ذلك.﴿ إِنَّ وَلِيِّـيَ ٱللَّهُ ﴾ الآية، لما أحالهم على الاستنجاد بآلهتهم في ضرّه وأراهم أن الله تعالى هو القادر على كل شىء عقب ذلك بالاسناد إلى الله تعالى والتوكل عليه وأنه تعالى هو ناصره عليهم وبيّن جهة نصره عليهم بأنْ أوحى إليه كتابه وأعزه برسالته، ثم انه تعالى يتولى الصالحين من عباده وينصرهم على أعدائهم، ولا يخذلهم. وقرىء وليّ الله بياء مشددة.﴿ وَٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ ﴾ أي من دون الله، وهذه الآية بيان لحال الأصنام وعجزها عن نصرة أنفسها فضلاً عن نصرة غيرها.﴿ وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى ٱلْهُدَىٰ ﴾ الآية تناسق الضمائر يقتضي أن الضمير المنصوب في وإن تدعوهم هو للأصنام ونفي عنهم السماع لأنها جماد لا تحسّ وأثبت لهم النظر على سبيل المجاز بمعنى أنهم صوروهم ذوي أعين فهم يشبهون من ينظر ومن قلب حدقته للنظر. ومعنى إليك، أي إليك أيها الداعي. وأفرد لأنه اقتطع أي استأنف قوله: وتراهم ينظرون إليك من جملة الشرط واستأنف الاخبار عنهم.


الصفحة التالية
Icon