﴿ وَقَالَ ٱرْكَبُواْ فِيهَا ﴾ الآية، الضمير في وقال عائد على نوح عليه السلام، أي وقال نوح حين أمر بالحمل في السفينة لمن آمن معه ومن أُمر بحمله اركبوا فيها. والظاهر أنه خطاب لمن يعقل خاصة لأنه لا يليق بمن لا يعقل. وعدي اركبوا بفي لتضمنه معنى صيروا فيها أو ادخلوا فيها، والتقدير اركبوا الماء فيها. والباء في ﴿ بِسْمِ ٱللَّهِ ﴾ في موضع الحال أي متبركين باسم الله. ومجراها ومرساها منصوبان اما على أنهما ظرفا زمان أو مكان لأنهما يجيئان لذلك، أو ظرفا زمان على جهة الحذف كما حذف من جئتك مَقْدَم الحاج. ويجوز أن يكون مجراها ومرساها مرفوعين على الابتداء. وبسم الله الخبر.﴿ وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ ﴾ إخبار من الله تعالى بما جرى للسفينة. وبهم حال، أي ملتبسة بهم. والمعنى تجري وهم فيها.﴿ فِي مَوْجٍ كَٱلْجِبَالِ ﴾ أي في موج الطوفان شبه كل موجة منه بجبل في تراكمها وارتفاعها. وقوله: في موج، يدل على أن الموج كان ظرفاً لهم، وهم مظروفون فيه وكانت السفينة تسبح بهم في الماء كالسمكة.﴿ وَنَادَىٰ نُوحٌ ٱبْنَهُ ﴾ الآية، الواو لا ترتب وهذا النداء كان قبل جري السفينة في قوله: وهي تجري بهم، وفي إضافته إليه هنا. وفي قوله: ان ابني من أهلي، وندائه دليل على أنه ابنه لصلبه، قاله ابن عباس: والضمير في كان عائد على ابنه. وأدغم بعض القراء الباء في الميم في اركب معنا، لاشتراكهما في أنهما من حروف الشفة، ولذلك أبدلت في قول بعضهم باسمك، يريدون ما اسمك، ونداؤه بالتصغير خطاب تحنن ورأفة. والمعنى اركب معنا في السفينة فتنجو.﴿ وَلاَ تَكُن مَّعَ ٱلْكَافِرِينَ ﴾ فتهلك. وظن ابن نوح أن ذلك المطر والتفجر على العادة ولذلك:﴿ قَالَ سَآوِيۤ إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ ٱلْمَآءِ ﴾ أي من وصول الماء إليّ فلا أغرق. وهذا يدل على تماديه في الكفر وعدم وثوقه بأبيه فيما أخبر. وقيل: والجبل الذي عناه طور زيتا فلم يمنعه. والظاهر إبقاء عاصم على حقيقته وانه نفي كل عاصم من أمر الله في ذلك الوقت وان من رحم يقع فيه من على المعصوم. والضمير الفاعل يعود على الله تعالى. وضمير الموصول محذوف ويكون الاستثناء منقطعاً، أي لكن من رحمه الله معصوم.﴿ وَحَالَ بَيْنَهُمَا ٱلْمَوْجُ ﴾ أي بينه وبين نوح عليه السلام. قيل: كانا يتراجعان الكلام فما استتمت المراجعة حتى جاءت موجة عظيمة وكان راكباً على فرس قد بطر وأعجب بنفسه فالتقمته وفرسه. وحيل بينه وبين نوح فغرق.﴿ وَقِيلَ يٰأَرْضُ ٱبْلَعِي مَآءَكِ ﴾ الآية، في هذه الآية أحد وعشرون نوعاً من البديع المناسبة في قوله: اقلعي وابلعي والمطابقة بذكر الأرض والسماء. والمجاز في قوله: يا سماء والمراد مطر السماء. والاستعارة في قوله: اقلعي. والإِشارة في قوله: وغيض الماء فإِنها إشارة إلى معان كثيرة، والتمثيل في قوله: وقضي الأمر عبر بإِهلاك الهالكين ونجاة الناجين بلفظة فيها بعد عن لفظة الموضوع له، والارداف في قوله: واستوت على الجودي، فقوله: استوت، كلام تام وعلى الجودي مردف قصداً للمبالغة في التمكن بهذا المكان. والتعليل في قوله: وغيض الماء، فإِن ذلك علة الاستواء وصحة التقسيم باستيعاب اقسام الماء في حالة نقصه إذ ليس إلا احتباس ماء السماء واحتقان ماء الأرض، وغيض الماء حاصل على ظهرها، والاحتراس في قوله: وبعداً للقوم الظالمين وهو أيضاً ذم لهم ودعاء عليهم والإِيضاح بقوله: الظالمين بين أنهم هم القوم الذين سبق ذكرهم في قوله:﴿ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ ﴾[هود: ٣٨].
فالألف واللام في القوم للعهد لو سقط لفظة القوم هنا لحصل لبس في المعنى والمساواة فلفظها مساوٍ لمعناها وحسن النسق لعطف قضايا بعضها على بعض، والإِيجاز لذكر القصة باللفظ القصير مستوعباً للمعاني الجمة والتسهيم، لأن أول الآية يا أرض ابلعي، فاقتضى آخرها ويا سماء اقلعي. والتهذيب لأن مفردات الألفاظ موصوفة بكمال الحسن كل لفظة سهلة مخارج الحروف عليها رونق الفصاحة وحسن البيان والتمكين لأن الفاصلة مستقرة في قرارها. والتجنيس في قوله: اقلعي وابلعي. والمقابلة في قوله: يا أرض ابلعي ويا سماء اقلعي. والذم في قوله: بعداً للقوم الظالمين. والوصف قصة القصة ووصفها بأحسن وصف بحيث استعمل نعوت ألفاظها وصفات معانيها، فما أعظم إعجازها من آية عدة ألفاظها تسع عشرة لفظة فيها أحد وعشرون نوعاً من البديع. والجودي اسم جبل. وهذا النداء والخطاب بالأمر هو استعارة مجازية، وعلى هذا جمهور الحذاق، وقيل: إن الله تعالى أحدث فيهما إدراكاً وفهماً لمعاني الخطاب. وروي ان إعرابياً سمع هذه الآية فقال هذا كلام القادرين. ومعنى: ﴿ وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ ﴾ الآية، أراد أن يناديه ولذلك أدخل الفاء إذ لو أراد حقيقة النداء والاخبار عن وقوعه منه لم تدخل الفاء في فقال وإلا لسقطت، والواو في هذه الجملة لا ترتب أيضاً وذلك أن هذه القصة كانت أولى ما ركب نوح السفينة. ومعنى من أهلي أي الذي أمرت أن أحملهم في السفينة بقوله تعالى:﴿ ٱحْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ ﴾[هود: ٤٠] ولم يظن أنه داخل فيمن استثناه الله تعالى بقوله:﴿ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ ٱلْقَوْلُ ﴾[هود: ٤٠] لظنه أنه مؤمن. وعموم قوله: ومن آمن، يشمل المؤمن من أهله ومن غيرهم. وحسَّن الخطاب بقوله: وان وعدك الحق. ومعنى ليس من أهلك على قول من قال انه ابنه لصلبه، أي الناجين، أو الذين عمّهم الوعد ومن زعم أنه ربيبه فهو ليس من أهله حقيقة إذ لا نسبة بينه وبينه بولادة فعلى هذا نفى ما قدر أنه داخل في قوله: وأهلك ثم علل انتفاء كونه ليس من أهله. بـ ﴿ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ﴾ والضمير في أنه عائد على ابن نوح. وقرىء: عمل غير صالح منوناً غير رفعاً صفة له فاحتمل قوله: انه أن يكون على حذف مضاف تقديره أيْ انّ عمله عمل غير صالح أو يكون الحذف في عمل تقديره انه ذو عمل غير صالح، أو جعله نفس العمل مبالغة في ذمه. وقرىء: وعمل فعلاً ماضياً وغير منصوب به. ومعنى قوله: ﴿ فَلاَ تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ﴾ أي إذ وعدتك فاعلم يقيناً أنه لا خلف في الوعد فإِذا رأيت ولدك لم يحمل فكان عليك أن تقف وتعلم أن ذلك لحق واجب عند الله تعالى. وعلى هذا القدر وقع عتابه ولذلك جاء بترفق وتلطف في قوله:﴿ إِنِّيۤ أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ ٱلْجَاهِلِينَ ﴾ وان أسألك في المستقبل ما لا علم لي بصحته تأديباً واتعاظاً بموعظتك.


الصفحة التالية
Icon