﴿ إِدْرِيسَ ﴾ جد أبي نوح وهو أخنوخ وهو أول من نظر في النجوم والحساب وجعله الله من معجزاته وأول من خط بالقلم وخاط الثياب ولبس المخيط وكانوا قبل يلبسون الجلود وأول مرسل بعد آدم وأول من اتخذ المكاييل والموازين والأسلحة فقاتل بني قابيل وامتنع من الصرف للعلمية والعجمة * والمكان العلي شرف النبوة والزلفى عند الله وقد أنزل الله عليه ثلاثين صحيفة وحديث أبي هريرة وأنس أنه في السماء الرابعة.﴿ أُولَـٰئِكَ ﴾ مبتدأ والذين خبره وهو إشارة إلى من تقدم ذكره في هذه السورة من الأنبياء ومن في من النبيين للبيان لأن جميع الأنبياء منعم عليهم ومن الثانية للتبعيض وكان إدريس من ذرية آدم صلى الله عليه وسلم لقربه منه لأنه جد أبي نوح وإبراهيم من ذرية من حمل من نوح لأنه من ولد سام بن نوح.﴿ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ ﴾ إسحاق ويعقوب وإسماعيل وإسرائيل معطوف على إبراهيم وزكريا ويحيى وموسى وهارون من ذرية إسرائيل وكذلك عيسى عليه السلام لأن مريم من ذريته.﴿ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا ﴾ يحتمل العطف على من الأولى والثانية.﴿ وَإِذَا تُتْلَىٰ ﴾ كلام مستأنف ويجوز أن يكون الذين صفة لأولئك والجملة الشرطية خبر وانتقل في هذه الجمل من الاسم الظاهر إلى ضمير المتكلم في قوله: حملنا وما بعده ثم إلى الاسم الظاهر في قوله: آيات الرحمن وهذا من التفنن في البلاغة والفصاحة وانتصب سجداً على الحال المقدرة لأنهم حالة الحزور ما كانوا سجداً والبكي جمع باك كشاهد.﴿ وَبُكِيّاً ﴾ أصله بكوياً اجتمعت واو وياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت وكسر ما قبلها * قال ابن عطية: وبكيا بكسر الباء وهو مصدر لا يحتمل غير ذلك " انتهى " ليس قوله هذا بسديد لأن اتباع حركة الباء لحركة الكاف لا يعني المصدرية ألا تراهم قرؤا جثياً بكسر الجيم جمع جاث وقالوا: عصى فاتبعوا وسمع في جمعه بكاة كرام ورماة قال الشاعر: ولا تراهم وإن جلت مصيبتهم   مع البكاة على من مات يبكونا﴿ فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ ﴾ الآية، قال ابن عباس ومقاتل: نزلت في اليهود وإضاعة الصلاة تأخيرها عن وقتها قاله ابن مسعود وغيره: والشهوات عام في كل مشتهى يشغل عن الصلاة وذكر الله وعن على الشهوات من بني الشديد وركب المنظور ولبس المشهور وألغى كل شر والرشاد كل خير وقال عبد الله بن عمرو وغيره الغي واد في جهنم.﴿ إِلاَّ مَن تَابَ ﴾ إستثناء متصل والضمير في تاب مفرد عائد على لفظ من ثم حمل على المعنى فجمع في قوله: فأولئك، وقرىء: يدخلون مبنياً للفاعل والمفعول وانتصب جنات عدن على أنه بدل من قوله: الجنة، وقرىء: بالرفع على إضمار مبتدأ محذوف تقديره تلك جنات عدن والعدن الإِقامة يقال عدن بالمكان إذا قام به وقال الزمخشري: عدن علم لأن المضاف إليها وهو جنات وصف بالتي وهي معرفة فلو لم تكن جنات مضافة إلى معرفة لم توصف بالمعرفة " انتهى " ولا يتعين ذلك إذ يجوز أن تكون التي خبر مبتدأ محذوف أو منصوباً بإِضمار أعني أو أمدح أو بدلاً من جنات ويبعد أن يكون صفة لقوله الجنة للفصل بالبدل الذي هو جنات والحكم أنه إذا اجتمع النعت والبدل قدّم النعت وجيء بعده بالبدل ودعوى الزمخشري أن عدنا علم بمعنى العدن يحتاج إلى توقيف وسماع من العرب وكذا دعوى العلمية الشخصية فيه، وقال الزمخشري أيضاً: ولولا ذلك أي كونه علماً لأرض الجنة لما ساغ الإِبدال لأن النكرة لا تبدل من المعرفة إلا موصوفة ولما ساغ وصفها بالتي " انتهى " أما قوله: ولولا ذلك إلى قوله: موصوفة فليس مذهب البصريين لأن مذهبهم جواز إبدال النكرة من المعرفة وإن لم تكن موصوفة وإنما ذلك شىء قاله البغداديون وهم محجوجون بالسماع على ما بيناه في كتبنا في النحو فملازمته فاسدة وبالغيب حال أي وعدها وهي غائبة عنهم أي وهم غائبون عنها لا يشهدونها ومأتياً مفعول من أتى واحتمل وعده أن يكون اسم مفعول أي موعوده.﴿ إِلاَّ سَلاَماً ﴾ إستثناء منقطع لأن سلام الملائكة ليس من جنس اللغو ومعنى بكرة وعشياً جميع الأوقات وكني بالطرفين عن ذلك ألا ترى إلى قوله تعالى:﴿ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا ﴾[الرعد: ٣٥].
﴿ نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا ﴾ التوريث استعارة أي يبقى عليه الجنة كما يبقى على الوارث مال الموروث والأتقياء يلقون ربهم وقد انقضت أعمالهم وثمرتها باقية وهي الجنة.﴿ وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ ﴾ أبطأ جبريل عليه السلام مرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما جاء قال: يا جبريل قد اشتقت إليك أفلا تزورنا أكثر مما تزورنا فنزلت الآية.﴿ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا ﴾ القصد بذلك الاشعار بملك الله تعالى لملائكته وأن قليل تصرفهم وكثيره إنما هو بأمره وانتقالهم من مكان إلى مكان إنما هو بحكمته إذ الأمكنة له وهم ملكه.﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً ﴾ فعيل للمبالغة في ناس كرحيم مبالغة في راحم والمعنى أنه تعالى لا يهمل أمرك وارتفع رب السماوات على البدل من قوله: ربك أو على تقدير خبر مبتدأ محذوف تقديره هو رب وعدي فاصطبر باللام على سبيل التضمين أي أثبت بالصبر لعبادته لأن العبادة تورد شدائد فأثبت لها وأصله التعدية بعلى كقوله تعالى:﴿ وَٱصْطَبِرْ عَلَيْهَا ﴾[طه: ١٣٢] والسمي من يوافق في الاسم تقول هذا سميك أي اسمه مثل اسمك فالمعنى أنه لم يتسم بفلظ الله شىء قط وكان المشركون يسمون أصنامهم كاللات والعزى إله وأما لفظة الله فلم يطلقوه على شىء من أصنامهم.﴿ وَيَقُولُ ٱلإِنسَانُ ﴾ الآية سبب النزول أي رجلاً من قريش قيل هو أبي بن خلف جاء بعظم رفات فنفخ فيه وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أيبعث هذا وسخر وكذب وإسناد هذه المقالة للجنس بما صدر من بعضهم، وقرىء: أئذا على الاستفهام وإذا على الخبر والناصب لإِذا فعل محذوف تقديره أئذا مت أبعث ولا يمكن أن يعمل فيه لسوف أخرج لأن لام الابتداء لا يعمل ما بعدها فيما قبلها قال الزمخشري: فإِن قلت لام الابتداء الداخلة على المضارع تعطي معنى الحال فكيف جامعت حرف الاستقبال قلت لم تجامعها إلا مخلصة للتوكيد كما أخلصت الهمزة في يا الله للتعويض واضمحل عنها معنى التعريف " انتهى " ما ذكره من أن اللام تعطي معنى الحال منازع فيه فعلى مذهب من لا يقول ذلك يسقط السؤال وأما قوله: كما أخلصت الهمزة إلى آخره فليس ذلك إلا على مذهب من يزعم أن الأصل فيه الاله وأما من يزعم أن أصله لاه فلا تكون الهمزة فيه للتعويض إذ لم يحذف منه شىء ولو قلنا أن أصله إله وحذف فاء الكلمة لم يتعين أن الهمزة فيه في النداء للتعويض إذ لو كانت للعوض من المحذوفة لتثبت دائماً في النداء وغيره ولما جاز حذفها في النداء قالوا: يا الله بحذفها وقد نصوا على أن قطع همزة الوصل في النداء شاذاً ولا يذكر الإِنسان كرر لفظ الإِنسان تشنيعاً عليه في إنكاره البعث وتذكيراً له بإِيجاده قبل ذلك وإنشائه من العدم الصرف * قال الزمخشري: الواو عطفت لا يذكر على يقول وسقطت همزة الإِنكار بين المعطوف عليه وحرف العطف " انتهى " * هذا رجوع منه إلى مذهب الجماعة من أن حرف العطف إذا تقدمته الهمزة فإِنما عطف ما بعدها على ما قبلها وقدمت الهمزة لأن لها صدر الكلام وكان مذهبه أن يقدر بين الهمزة والحرف ما يصلح أن يعطف عليه ما بعد الواو فتقر الهمزة على حالها وليست مقدمة من تأخير وقد رددنا عليه هذه المقالة. و ﴿ مِن قَبْلُ ﴾ أي من قبل بعثه وإِنكاره البعث.﴿ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً ﴾ إشارة إلى العدم الصرف وانتفاء الشيئية عنه بدل على أن المعدوم لا يسمى شيئاً ولما أقام الحجة على حقيقة البعث أقسم على ذلك باسمه تعالى مضافاً إلى رسوله صلى الله عليه وسلم تشريفاً له وتفخيماً لقدره وقد تكرر هذا القسم في القرآن تعظيماً لحقه ورفعاً منه. و ﴿ لَنَحْشُرَنَّهُمْ ﴾ جواب القسم والضمير المنصوب الظاهر أنه عائد على منكري البعث في قوله: ويقول الإِنسان يريد الإِنسان الجنس المنكر للبعث وقيل الضمير عام في جميع المحشورين والشياطين معطوف على الضمير المنصوب.﴿ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ ﴾ إن كان الضمير عاماً أحضروا ليروا النار فيفرح المؤمن بنجاته وحول منصوب على الظرف وجثيا قاعدين على الركب.﴿ ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ ﴾ أي: لنخرجن كقوله تعالى:﴿ وَنَزَعَ يَدَهُ ﴾[الأعراف: ١٠٨] وقيل لزمين من نزع القوس وهو الرمي بالسهم * والشيعة الجماعة المرتبطة بمذهب والضمير في أيهم عائد على المحشورين المحضرين وأيهم مبني عند سيبويه وهو مفعول بلننزعنّ ويدل على أنه مفعول قراءة من قرأ أيهم بالنصب وأشد خبر مبتدأ محذوف تقديره هم أشد وليونس والخليل مذهب في أيهم وأيها استفهام مرفوع بالابتداء ذكر ذلك في النحو * وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون النزع واقعاً على من كل شيعة كقوله:﴿ وَوَهَبْنَا لَهْم مِّن رَّحْمَتِنَا ﴾[مريم: ٥٠] أي لننزعن بعض كل شيعة فكان قائلاً قال: فمن هم فقيل أيهم أشد عتياً " انتهى " فيكون أيهم موصولة خبر مبتدأ محذوف وهذا تكلف وادعاء إضمار لا ضرورة تدعو إليه وجعل ما ظاهره أنه جملة واحدة جملتين وعتيا تمييز وأصله المصدر يقال عتا يعتو عتواً وعتياً.﴿ ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ ﴾ أي نحن في ذلك النزع لا نضع شيئاً مميز موضعه بها أي: بجهنم. و ﴿ صِلِيّاً ﴾ تمييز وهو في الأصل مصدر.﴿ وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا ﴾ إن نافية بمعنى ما وثم محذوف تقديره وإن منكم أحد إلا واردها خبر لمبتدأ محذوف ومعنى واردها أي معروض عليها ولا يقتضي الورود الدخول * قال ابن عطية: وإن منكم إلا واردها قسم والواو يقتضيه ويفسره قول النبي صلى الله عليه وسلم:" من مات له ثلاث من الولد لم تمسه النار إلا تحلة القسم "" انتهى " ذهل عن قول النحويين أنه لا يستغني عن القسم بالجواب لدلالة المعنى إلا إذا كان الجواب باللام أو بأن والجواب جاء هنا على زعمه بأن النافية فلا يجوز حذف القسم على ما نصوا عليه وقوله: الواو يقتضيه يدل على أنها عنده واو القسم ولا يذهب نحوي إلى أن مثل هذه الواو واو القسم لأنه يلزم من ذلك حذف المجرور وإبقاء الجار ولا يجوز ذلك إلا أن وقع في شعر أو نادر كلام بشرط أن تقوم صفة المحذوف مقامه كما أولوا في قولهم نعم السير على بئس العير أي على عير بئس العير * وقول الشاعر: والله ما زيد بنام صاحبه   أي برجل نام صاحبهوهذه الآية ليست من هذا الضرب إذ لم يحذف المقسم به وقامت صفته مقامه.﴿ كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ ﴾ اسم كان ضمير عائد على المصدر المفهوم من قوله: واردها أي كان الورود ومفعول اتقوا محذوف أي الشرك والشرك هنا ظلم الكفر.﴿ وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَٰتٍ ﴾ نزلت في النضر بن الحارث وأصحابه كان فقراء الصحابة في خشونة عيش ورثاثة سربال والمشركون يدهنون رؤوسهم ويرجلون شعورهم ويلبسون الحرير وفاخر الملابس فقالوا للمؤمنين أي الفريقين خير مقاماً أي منزلاً وسكناً * وأحسن ندياً أي مجلساً ولما أقام الحجة على منكري البعث واتبعه بما يكون يوم القيامة أخبر عنهم أنهم عارضوا تلك الحجة الدامغة بحسن شارتهم في الدنيا وذلك عندهم يدل على كرامتهم عند الله ثم ذكر كثرة من أهلك من القرون ممن كان أحسن حالاً منهم في الدنيا تنبيهاً على أنه تعالى يهلكهم ويستأصل شأفتهم وكم جزية مفعول بأهلكنا أي كثيراً أهلكنا. و ﴿ مِّن قَرْنٍ ﴾ تمييز * قال الزمخشري: وهم أحسن في محل النصب صفة لكم ألا ترى أنك لو تركت هم لم يكن لك بد من نصب أحسن على الوصفية " انتهى " تابعه أبو البقاء على ذلك ونص أصحابنا على أن كم الخبرية والاستفهامية لا توصف ولا يوصف بها فعلى هذا يكون أحسن في موضع الصفة لقرن وجمع لأن القرن هو مشتمل على أفراد كثيرة فروعي معناه ولو أفرد الضمير على اللفظ لكان عربياً فصار كلفظ جميع قال تعالى:﴿ فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ ﴾[يس: ٥٣] وقال: نحن جميع منتصر فوصفه بالجمع وبالمفرد وقرىء:﴿ وَرِءْياً ﴾ بهمزة ساكنة وزنه فعل بمعنى مفعول كالطحن بمعنى المطحون فمعناه مرئياً وقرىء: وريا بإِبدال الهمزة ياء وإدغام الياء في الياء بعدها وهو بمعنى المهموز وقرىء: وزياً بالزاي بعدها ياء مشددة وهي البزة الحسنة والأثاث الآلات المجتمعة المستحسنة.


الصفحة التالية
Icon