﴿ فَنَاظِرَةٌ ﴾ معطوف على مرسلة. و ﴿ بِمَ ﴾ متعلق بيرجع والنظر هنا معلق أيضاً والجملة في موضع مفعول به وفيه دلالة على أنها لم تثق بقبول الهدية بل جوزت الرد وأرادت بذلك أن ينكشف لها غرض سليمان والهدية إسم لما يهدى كالعطية إسم لما يعطى وروي أنها قالت لقومها إن كان ملكاً ديناوياً أرضاه المال وعملنا معه بحسب ذلك وإن كان نبياً لم يرضه المال وينبغي لنا أن نتبعه على دنيه وفي الكلام حذف فأرسلت الهدية.﴿ فَلَمَّا جَآءَ ﴾ أي الرسول سليمان والمراد بالرسول الجنس لا حقيقة المفرد وكذلك الضمير في إرجع والرسول يقع على الجمع والمفرد والمذكر والمؤنث. و ﴿ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ ﴾ إستفهام إنكار واستقلال وفي ذلك دلالة على عزوفه عن الدنيا وعدم تعلق قلبه بها عليه السلام ثم ذكر نعمة الله عليه وأن ما آتاه الله من النبوة وسعة الملك ﴿ خَيْرٌ مِّمَّآ آتَاكُمْ بَلْ أَنتُمْ ﴾ بما يهدي إليكم.﴿ تَفْرَحُونَ ﴾ لحبكم الدنيا.﴿ ٱرْجِعْ إِلَيْهِمْ ﴾ وهو خطاب للرسول الذي جاء بالهدية وهو المنذر بن عمرو أمير الوفد والمعنى إرجع إليهم بهديتهم ثم أقسم سليمان فقال:﴿ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ ﴾ متوعداً لهم وفيه حذف أي إذا لم يأتوني مسلمين ودل هذا التوعد على أنهم كانوا كفاراً باقين على الكفر إذ ذاك والضمير في بها عائد على الجنود ومعنى.﴿ لاَّ قِبَلَ ﴾ لا طاقة وحقيقة القبل المقاومة والمقابلة أي لا يقدرون أن يقاتلوهم والضمير في منها عائد على سبأ وهي أرض بلقيس وقومها وانتصب أذلة على الحال.﴿ وَهُمْ صَاغِرُونَ ﴾ حال أخرى والذل ذهاب ما كانوا فيه من العز والصغار وقوعهم في أسر واستبعاد ولا يقتصر بهم على أن يرجعوا سوقة بعد أن كانوا ملوكاً.﴿ قَالَ يٰأَيُّهَا ٱلْمَلأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا ﴾ الآية قال ابن عباس: كان سليمان مهيباً لا يبتدأ بشىء حتى يكون هو الذي يسأل عنه فنظر ذات يوم رهجاً قريباً منه فقال ما هذا؟ قالوا بلقيس فقال ذلك.﴿ قَالَ عِفْرِيتٌ مِّن ٱلْجِنِّ أَنَاْ آتِيكَ بِهِ ﴾ الآية وكان سليمان عليه السلام يجلس في مجلس الحكم من الصبح إلى الظهر فقيل من مقامك أي من مجلس الحكم وقيل قبل أن تستوي من جلوسك قائماً.﴿ وَإِنِّي عَلَيْهِ ﴾ أي على الإِتيان به.﴿ لَقَوِيٌّ ﴾ على حمله.﴿ أَمِينٌ ﴾ لا أختلس منه شيئاً.﴿ قَالَ ٱلَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ ٱلْكِتَابِ ﴾ قيل هو آصف بن برخيا وقيل غير ذلك والعلم الذي أوتيه إسم الله الأعظم والظاهر أن ارتداد الطرف حقيقة ولذلك روي أن سليمان قال: أريد أسرع من ذلك حين أجابه العفريت فروي أن آصف قال لسليمان عليه السلام: مد عينيك حتى ينتهي ظرفك فنظر نحو اليمن فدعا آصف فغار العرش من مكانه بمأرب ثم نبع عند مجلس سليمان عليه السلام بالشام بقدرة الله تعالى.﴿ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ ﴾ في الكلام حذف تقديره فدعا الله فأتاه به فلما رآه أي عرش بلقيس وانتصب مستقراً على الحال وعنده معمول له والظرف إذا وقع في موضع الحال كان العامل فيه واجب الحذف فقال ابن عطية وظهر العامل في الظرف من قوله مستقراً وهذا هو المقدر أبداً في كل ظرف جاءها هنا مظهراً وليس في كتاب الله مثله " انتهى ".﴿ قَالَ هَـٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّي ﴾ أي هذا الإِتيان بعرشها وتحصيل ما أردت من ذلك هو فضل ربي علي وإحسانه ثم علل ذلك بقوله:﴿ لِيَبْلُوَنِيۤ أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ﴾ وتلقى سليمان النعمة وفضل الله بالشكر إذ ذاك نعمة متجددة والشكر قيد النعم. و ﴿ أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ﴾ في موضع نصب ليبلوني وهو معلق لأنه في معنى التمييز والتمييز في معنى العلم وكثر التعليق في هذا الفعل إجراء له مجرى العلم وإن لم يكن مرادفاً له لأن مدلوله الحقيقي هو الإِختبار.﴿ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ﴾ أي ذلك الشكر عائد ثوابه إليه إذا كان قد صان نفسه عن كفران النعمة وفعل ما هو واجب عليه من شكر نعمة الله عليه.﴿ وَمَن كَفَرَ ﴾ أي فضل الله ونعمته عليه.﴿ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ ﴾ عن شكره إذ ثمرة شكره لا يعود نفعها إلى الله لأنه هو الغني المطلق الكريم بالانعام على من كفر نعمته والظاهر أن قوله: فإِن ربي غني كريم هو جواب الشرط ولذلك أضمرنا في قوله غني أي عن شكره ويجوز أن يكون الجواب محذوفاً دل عليه ما قبله من قسيمة أي ومن كفر فلنفسه أي ذلك الكفر عائد عقابه عليه.﴿ قَالَ نَكِّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا ﴾ أمر بالتنكير وهو أن يزاد فيه وينقص والتنكير جعله متنكراً متغيراً عن شكله وهيئته.﴿ فَلَمَّا جَآءَتْ ﴾ في الكلام حذف تقديره فنكروا عرشها ونظروا ما جوابها إذ سئلت عنه فلما جاءت.﴿ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ ﴾ أي أمثل هذا العرش الذي رأيتيه عرشك الذي تركتيه ببلادك ولم يأت التركيب أهذا عرشك بل جاء بأداة التشبيه لئلا يكون ذلك تلقينا لها ولما رأته على هيئة لا تعرفها فيه وتميزت فيه أشياء من عرشها لم تجزم بأنه هو ولا نفته النفي البالغ بل أبرزت ذلك في صورة تشبيهية فقالت:﴿ كَأَنَّهُ هُوَ ﴾ وذلك من جودة ذهنها حيث لم تجزم في الصورة المختلفة بأحد الجائزين من كونه إياه أو من كونه ليس إياه وقابلت تشبيههم بتشبيهها والظاهر أن قوله:﴿ وَأُوتِينَا ٱلْعِلْمَ ﴾ إلى قوله من قوم كافرين ليس من كلام بلقيس وإن كان متصلاً بكلامها فقيل هو من كلام سليمان عليه السلام والصرح كل بناء عال ومنه ابن لي صرحاً الآية ولما وصلت بلقيس أمر سليمان الجن فصنعت له صرحاً وهو السطح من الصحن من غير سقف وجعلته مبنياً كالصهريج وملىء ماء وبث فيه السمك والضفادع وطبق بالزجاج الأبيض الشفاف ولهذا جاء صرحاً وجعل لسليمان في وسطه كرسي فجلس عليه وعكفت عليه الطير والجن والإِنس فلما وصلت بلقيس قيل لها أدخلي إلى نبي الله سليمان فرأت اللجة وفزعت ولم يكن لها بد من امتثال الأمر فكشفت عن ساقيها فرأى سليمان ساقيها سالمتين مما قالت الجن فيها فلما بلغت هذا الحد قال لها سليمان انه صرح ممرد من قوارير فعند ذلك استسلمت بلقيس وأذعنت وأسلمت وأقرت على نفسها بالظلم وفي الكلام حذف تقديره فدخلت امتثالاً للأمر واللجة الماء الكثير وكشف ساقيها عادة كل من كان لابساً وأراد أن يخوض الماء إلى مقصد له ولم يكن المقصود من الصرح إلا تهويل الأمر وحصل كشف الساق على سبيل التبع قال ابن عطية: ومع ظرف بني على الفتح وأما إذا سكنت العين فلا خلاف أنه حرف جاء لمعنى " انتهى " الصحيح أنها ظرف فتحت العين أو سكنت وليس التسكين مخصوصاً بالشعر كما زعم بعضهم بل ذلك لغة لبعض العرب والظرفية فيها مجاز وإنما هو إسم يدل على معنى الصحبة.﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً ﴾ الآية ثمود هي بعد عاد الأولى وصالح أخوهم في النسب لما ذكر قصة موسى وداود وسليمان وهم من بني إسرائيل ذكر قصة من هو من العرب يذكر بها قريشاً والعرب وينبههم على من تقدم من الأنبياء من العرب كان يدعو إلى إفراد الله تعالى بالعبادة ليعلموا أنهم في عبادة الأصنام على ضلالة وإن شأن الأنبياء عربهم وعجمهم هو الدعاء إلى عبادة الله تعالى وإن في أن اعبدوا الله يجوز أن تكون مفسرة لأن أرسلنا يتضمن معنى القول ويجوز أن تكون مصدرية أي بأن اعبدوا فحذف حرف الجر فعلى الأول لا موضع لها من الإِعراب وعلى الثاني ففي موضعها خلاف أهو في موضع نصب أم في موضع جر والظاهر أن الضمير في فأداهم عائد على ثمود وان قومه انقسموا فريقين مؤمناً وكافراً وقد جاء ذلك مفسراً في سورة الأعراف في قوله: قال الذين استكبروا للذين استضعفوا لمن آمن منهم وإذا هنا هي الفجائية وعطف بالفاء الذي تقتضي التعقب المهلة فكان المعنى أنهم بادروا بالاختصام متعقباً دعاء صالح إياهم إلى عبادة الله تعالى وجاء يختصمون على المعنى لأن الفريقين جمع قوله﴿ إِنَّا بِٱلَّذِيۤ آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ﴾[الأعراف: ٧٦] فقال آمنتم وهو ضمير الجمع وإن كان الفريق المؤمن هو صالحاً وحده فإِنه قد انضم إلى قومه والمجموع جمع وأوثر يختصمون على يختصمان وإن كان من حيث التثنية جائزاً فصيحاً لأنه مقطع فصل واختصامهم دعوى كل فريق أن الحق معهم وقد ذكر الله تعالى تخاصمهم في الأعراف ثم تلطف صالح بقومه ورفق بهم في الخطاب فقال منادياً لهم على جهة التحنن عليهم.﴿ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِٱلسَّيِّئَةِ ﴾ أي بوقوع ما يسوؤكم.﴿ قَبْلَ ﴾ الحالة.﴿ ٱلْحَسَنَةِ ﴾ وهي رحمة الله تعالى وكان قد قال لهم في حديث الناقة ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم فقالوا له: إئتنا بعذاب الله.﴿ قَالُواْ ٱطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ ﴾ أي تشاء منا بك وبالذين آمنوا معك فرد عليهم بقوله:﴿ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ ٱللَّهِ ﴾ أي حظكم في الحقيقة من خير أو شر هو من عند الله وبقضائه إن شاء رزقكم وإن شاء حرمكم * ثم انتقل إلى الاخبار عنهم بحالهم فقال:﴿ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ ﴾ بشهواتكم أي تسعفون بها وجاء تفتنون بتاء الخطاب على مراعاة أنتم وهو الكثير في لسان العرب ويجوز يفتنون بالياء للغيبة على مراعاة لفظ قوم وهو قليل تقول العرب أنت رجل تأمر بالمعروف بتاء الخطاب وبياء الغيبة * والمدينة مجتمع ثمود وقريتهم وهي الحجر وذكر المفسرون أسماء التسعة وفي بعضها اختلاف ورأسهم قدار بن سالف وأسماء لا تنضبط بشكل ولا بتعيين وكانوا عظماء القرية وأغنياءها وفساقها * والرهط من الثلاثة إلى العشرة والنفر من الثلاثة إلى التسعة واتفق المفسرون على أن المعنى تسعة رجال.﴿ قَالُواْ تَقَاسَمُواْ بِٱللَّهِ ﴾ معناه تحالفوا وقرىء لتبينته ثم لتقولن وضم ما قبل نون التوكيد وقرىء بالنون فيهما وفتح ما قبل نون التوكيد والظاهر أن في الكلام حذف معطوف يدل على ما قبله والتقدير ما شهدنا مهلك أهله ومهلكه ودل عليه قولهم لنبيتنه وما روي أنهم عزموا على قتله وقتل أهله ويكون قوله:﴿ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ﴾ كذباً في الاخبار أوهموا قومهم أنهم إذا قتلوه وأهله سراً ولم يشعر بهم أحد وقالوا تلك المقالة انهم صادقون وهم كاذبون ومكرهم ما أخفوه من تدبير الفتك بصالح وأهله ومكر الله إهلاكهم من حيث لا يشعرون * والظاهر أن كيف خبر كان وعاقبة الإِسم والجملة في موضع نصب بانظر وهي معلقة وقرىء إنا بكسر الهمزة على الاستئناف وقرىء بفتحها فإِنا بدل من عاقبة أوجز لكان وكيف في موضع الحال أو خبر مبتدأ محذوف أي هي أي العاقبة تدميرهم أو يكون التقدير لأنا وحذف حرف الجر وعلى كلا القولين يجوز أن تكون كان تامة وعاقبة فاعلاً بها وأن تكون زائدة وعاقبة مبتدأ خبره كيف ولما أمر تعالى بالنظر فيما جرى لهم من الهلاك في أنفسهم بين ذلك والإِشارة إلى منازلهم وكيف خلت منهم وخراب البيوت خلوها من أهلها حتى لا يبقى منهم أحدكما تعاقب به الظلمة إذ يدل ذلك على استئصالهم.﴿ وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ ﴾ الآية ولوطاً عطف على صالحاً أي أرسلنا لوطاً. و ﴿ أَتَأْتُونَ ﴾ إستفهام إنكار وتوبيخ وأبهم أولاً في قوله الفاحشة ثم عينها في قوله:﴿ أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ ٱلرِّجَالَ ﴾ وقوله:﴿ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ ﴾ أي تعلمون قبح هذا الفعل المبتكر الذي أحدثتموه وأنه من أعظم الخطايا أو آثار العصاة قبلكم أو ينظر بعضكم لبعض لا يستتر ولا يتحاشى من إظهار ذلك وانتصب شهوة على أنه مفعول من أجله وتجهلون غلب فيه الخطاب كما غلب في قوله بل أنتم قوم تفتنون ومعنى تجهلون أي عاقبة ما أنتم عليه أو تفعلون فعل السفهاء المجان ولما أنكر عليهم ونسبهم إلى الجهل ولم تكن لهم حجة فيما يأتونه من ذلك عدلوا إلى المغالبة والإِيذاء وتقدّم معنى يتطهرون في الاعراف وباقي الآية تقدم تفسير نظيره في الأعراف. و ﴿ فَسَآءَ ﴾ بمعنى بئس والمخصوص بالذم محذوف تقديره مطرحم.﴿ قُلِ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلاَمٌ عَلَىٰ عِبَادِهِ ﴾ الآية لما فرع من قصص هذه السورة أمر رسوله عليه الصلاة والسلام بحمده تعالى وبالسلام على المصطفين وأخذ في مباينة واجب الوجود للأصنام التي أشركوها مع الله تعالى وعبدوها وابتدأ في هذا التقرير لقريش وغيرهم بالحمدلة وكأنها صدر خطبة لما يلقى من البراهين الدالة على الوحدانية والعلم والقدرة * ولما كان خلق السماوات والأرض وإنزال الماء من السماء لا شبهة للعاقل في أن ذلك لا يكون إلا لله تعالى وكان الإِثبات مما قد يتسبب فيه الإِنسان بالبذر والسقي والتهيئة ويسوغ لفاعل السبب نسبة فعل المسبب إليه بين تعالى اختصاصه بذلك بطريق الإِلتفاف وتأكيد ذلك بقوله: ما كان لكم أن تنبتوا شجرها ألا ترى أن المتسبب لذلك قد لا يأتي على وفق مراده ولو أتى فهو جاهل لطبعه ومقداره وكيفيته فكيف يكون فاعلاً لها * والبهجة الجمال والنضرة والحسن لأن الناظر فيها يبتهج أي يسر ويفرح وقوله:﴿ ءَآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ إستفهام فيه تبكيت وتوبيخ وتهكم بحالهم وتنبيه على موضع التباين بين الله تعالى وبين الأوثان التي يعبر عنها بما التي هي لما لا يعقل إذ معلوم عند من له عقل أنه لا يشرك في الخيرية بين الله وبينهم وكثيراً ما يجيء هذا النوع من أفعل التفضيل حيث يعلم ويتحقق أن لها شركة فيها وإنما يذكر على سبيل إلزام الخصم وتنبيهه على خطأ مرتكبه وقرىء: ذات بهجة بالإِفراد وجمع التكسير يجري في الوصف مجرى الواحدة كقوله تعالى:﴿ أَزْوَٰجٌ مُّطَهَّرَةٌ ﴾[البقرة: ٢٥] أو هو على معنى جماعة.﴿ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا ﴾ قد تقدّم أن نفي مثل هذه الكينونة قد يكون ذلك لاستحالة وقوعه كهذا أو لامتناع وقوعه شرعاً أو لنفي الأولوية والمعنى هنا أن إنبات ذلك منكم محال لأنه إبراز شىء من العدم إلى الوجود وهذا ليس بمقدور إلا الله تعالى ولما ذكر منته عليهم خاطبهم بذلك ثم لما ذكر ذمهم عدل من الخطاب إلى الغيبة فقال:﴿ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ ﴾ إما التفاتاً وإما إخباراً للرسول عليه الصلاة والسلام بحالهم أي يعدلون عن الحق أو يعدلون به غيره أي يجعلون له مثيلاً وعديلاً ولما ذكر تعالى أنه منشىء السماوات والأرض وذكر شيئاً مشتركاً بين السماء والأرض وهو إنزال الماء من السماء وإنبات الحدائق بالأرض ذكر شيئاً مختصاً بالأرض وهو جعلها قراراً أي مستقراً لكم بحيث يمكنكم الإِقامة بها والاستقرار عليها ولا يديرها الفلك قيل لأنها مضمحلة في جنب الفلك كالنقطة في وسط الرحى.﴿ وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ ﴾ أي بين أماكنها في شعابها وأوديتها.﴿ أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ ﴾ أي جبالاً ثوابت حتى لا تنكفىء بكم وتميد. والبحران العذب والملح والحاجز الفاصل من قدرة الله تعالى وما أحسن ما جاء تركيب هذه الجمل بلفظ وجعل إذ صارت كل جملة مستقلة بذاتها بخلاف عطف المفردات وجاءت بلفظ الماضي دلالة على أن لا تجدد فيها بخلاف الجمل التي بعدها فإِنها جاءت بلفظ المضارع الدال على التكرار والتجدد.﴿ أَمَّن يُجِيبُ ٱلْمُضْطَرَّ ﴾ المضطر إسم مفعول وهو الذي أحوجه مرض أو فقر أو حادث من حوادث الدهر إلى الإِلتجاء إلى الله تعالى والتضرع إليه فيدعوه لكشف ما اعتراه من ذلك وإزالته عنه.﴿ وَيَكْشِفُ ٱلسُّوۤءَ ﴾ هو كل ما يسوء وهو عام في كل ضر انتقل من حالة المضطر وهي خاص إلى أعم وهو ما يسوء سواء كان المكشوف عنه في حال الاضطرار أو فيما دونهم وخلفاء أي الأمم السالفة أو في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وظلمة البر هي ظلمة الليل وهي الحقيقة وتنطلق مجازاً على الجهل وعلى انبهام الأمر يقال أظلم على الأمر وهداية البر تكون بالعلامات وهداية البحر تكون بالعلامات وهداية البحر تكون بالنجوم.﴿ وَمَن يُرْسِلُ ٱلرِّيَاحَ بُشْرَاً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ﴾ تقدم تفسير نظير هذه الجملة وقرىء عما تشركون بتاء الخطاب.﴿ أَمَّن يَبْدَأُ ٱلْخَلْقَ ﴾ الظاهر أن الخلق هو المخلوق وبدؤه اختراعه وإنشاؤه ويظهر أن المقصود هو من يعيده في الآخرة من الإِنس والجن والملك لا عموم المخلوق ولما كان إيجاد بني آدم إنعاماً إليهم وإحساناً ولا تتم النعمة إلا بالرزق قال:﴿ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ ﴾ بالمطر.﴿ وٱلأَرْضِ ﴾ بالنبات.﴿ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ ﴾ أي أحضروا حجتكم ودليلكم على ما تدعون من إنكار شىء مما تقدم تقريره.﴿ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ في ان مع الله إلهاً آخر فأين دليلكم عليه وهذا رجع إلى ما تقدم من جميع الاستفهام الذي جاء به على سبيل التقرير وناسب ختم كل استفهام بما تقدمه كما ذكر إيجاد العلم العلوي والسفلي ختم بقوله: بل هم قوم يعدلون ولما ذكر جعل الأرض مستقراً ختم بقوله: ﴿ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ إذ كان فيهم من يعلم ويفكر في ذلك ولما ذكر إجابة دعاء المضطر ختم بقوله: ﴿ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ ﴾ إشارة إلى توالي النسيان على الإِنسان إذا صار في خير وزال اضطراره ولما ذكر الهداية في الظلمات قال عما يشركون واعتقب كل واحدة من هذه الجمل قوله أإله مع الله على سبيل التوكيد والتقرير أنه لا إله إلا هو تعالى قيل سأل الكفار عن وقت القيامة التي وعدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وألحوا عليه فنزل:﴿ قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوٰتِ وٱلأَرْضِ ٱلْغَيْبَ إِلاَّ ٱللَّهُ ﴾ الآية والمتبادر إلى الذهن أن من فاعل بيعلم والغيب مفعول وإلا الله استثناء منقطع لعدم إندراجه في مدلول لفظ من جاء مرفوعاً على لغة تميم ودلت هذه الآية على أنه تعالى هو المنفرد بعلم الغيب * وأيان تقدم الكلام فيها في الأعراف وهي هنا إسم استفهام بمعنى متى وهي هنا معمولة ليبعثون ويشعرون معلق والجملة التي فيها استفهام في موضع نصب به وقرىء بل إدراك أصله تدارك وقرىء أدرك على وزن أفعل قال ابن عباس: المعنى بل تدارك علمهم ما جهلوه في الدنيا أي علموه في الآخرة بمعنى تكامل علمهم في الآخرة بأن كل ما وعدوا به حق وهذا حقيقة إثبات العلم لهم لمشاهدتهم عياناً في الآخرة ما وعدوا به عياناً في الدنيا وكونه بمعنى المضي ومعناه الاستقبال لأن الاخبار به صدق فكأنه قد وقع.﴿ وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَآؤُنَآ ﴾ الآية ناسب ذكر مقالتهم في استبعادها وأن ما وعدوا به من ذلك ليس بصحيح إنما ذلك ما سطر الأولون من غير إخبار بذلك عن حقيقة ثم ذكروا أنهم وعدوا ذلك هم وآباؤهم فلم يقع شىء من هذا الموعود ثم جزموا وحصروا أن ذلك من أكاذيب من تقدم وجاء هنا تقديم الموعود به وهو هذا وتأخر في آية أخرى على حسب ما سيق الكلام لأجله ثم أمر نبيه عليه السلام أن يأمرهم بالسير في الأرض وتقدم الكلام في نظيره وأراد بالمجرمين الكافرين ثم سلى نبيه فقال:﴿ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ﴾ أي في كونهم لم يسلموا ولم يذعنوا إلى ما جئت به ولما استعجلت قريش بأمر الساعة أو بالعذاب الموعود به هم وسألوا عن الوقت الموعود على سبيل الاستهزاء قيل له:﴿ قُلْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم ﴾ أي تبعكم عن قرب وصار كالرديف التابع لكم بعض ما استعجلتم به وهو كان عذاب يوم بدر وقيل عذاب القبر وقرىء: ردف لكم بكسر الدال وفتحها وهما لغتان وأصله التعدي بمعنى تبع ولحق فاحتمل أن يكون مضمناً معنى اللازم ولذلك فسره ابن عباس وغيره بازف وقرب لما كان يجيء بعد الشىء قريباً منه ضمن معنه ومزيد اللام في مفعوله لتأكيد وصول الفعل إليه كما زيدت الباء في ولا تلقوا بأيديكم وقد عدى بمن على سبيل التضمين لما يتعدى بها قال الشاعر: فلما ردفنا من عمير وصحبه * تولوا سراعاً والمنية تعنق. أي دنوا من عمير وبدأ فيما يحض الإِنسان ثم عم كل غائبة عبر أولاً بالمحال وهي الصدور عن الحال فيها وهي القلوب الظاهر عموم قوله من غائبة أي ما من شىء في غاية الغيبوبة والخفاء إلا في كتاب عند الله تعالى ومكنون علمه * ومن غائبة في موضع المبتدأ ومن زائدة وفي كتاب خبره.﴿ إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ ٱلْمَوْتَىٰ ﴾ ولما كان القرآن وما قص الله فيه لا يكاد يجدي عندهم أخبر الله عنهم أنهم موتى القلوب أو شبهوا بالموتى وإن كانوا أحياء صحاح الأبصار كأنه إذا تلى عليهم لا تعيه آذانهم فكانت حالتهم لانتفاء جدوى السماع كحالة الموتى.﴿ وَمَآ أَنتَ بِهَادِي ٱلْعُمْيِ ﴾ حيث يضلون الطريق فلا يقدر أحد أن يزيل ذلك عنهم ويحولهم هداة بصراء إلا الله تعالى وقرىء بهادي العمى إسم فاعل مضاف وقرىء بهاد منونا العمى وقرىء: تهدي مضارع هدي العمى بالنصب.﴿ إِن تُسْمِعُ ﴾ هم الذين علم الله أنهم يصدقون بآياته.﴿ فَهُم مُّسْلِمُونَ ﴾ منقادون للحق.﴿ وَإِذَا وَقَعَ ٱلْقَوْلُ عَلَيْهِم ﴾ أي إذا انتجز وعد عذابهم الذي تضمنه القول الأزلي من الله تعالى كقوله﴿ حَقَّتْ كَلِمَةُ ٱلْعَذَابِ ﴾[الزمر: ٧١] فالمعنى إذا أراد الله أن ينفذ في الكافرين سابق علمه فيهم من العذاب أخرج لهم دابة من الأرض ووقع عبارة عن الثبوت واللزوم وروي أن خروجها حين ينقطع الخبر ولا يؤمر بالمعروف ولا ينهى عن منكر ولا يبقى منيب ولا تائب وفي الحديث أن الدابة وطلوع الشمس من المغرب من أول الإِشراط ولم يعين الأول منهما وكذلك الدجال وظاهر الأحاديث أن طلوع الشمس آخرها والظاهر أن الدابة التي تخرج واحدة وروي أنها تخرج كل بلد دابة مما هو مثبوت نوعها في الأرض وليست واحدة فيكون قوله: دابة إسم جنس واختلفوا في كيفيتها اختلافاً كثيراً وقيل تخاطبهم فتقول للمؤمن هذا مؤمن وللكافر هذا كافر وقيل تكلمهم تجرحهم من الكلم وروي أنها تسم الكافر في جبهته فتربده وتمسح على وجه المؤمن فتبيضه.﴿ وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً ﴾ الآية الحشر الجمع على عنف من كل أمة أي من الأمم ومن هي للتبعيض فوجاً أي جماعة كثيرة.﴿ مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا ﴾ من للبيان أي الذين يكذبون والآيات القرآن.﴿ فَهُمْ يُوزَعُونَ ﴾ تقدم تفسيره.﴿ حَتَّىٰ إِذَا جَآءُوا ﴾ أي إلى الموقف.﴿ قَالَ أَكَذَّبْتُم ﴾ إستفهام توبيخ وتقريع وإهانة.﴿ وَلَمْ تُحِيطُواْ بِهَا عِلْماً ﴾ الظاهر أن الواو للحال أي أوقع تكذيبهم بها غير متدبرين لها ولا محيطين بكنهها وأم هنا منقطعة فتقدّر ببل وحدها انتقل من الاستفهام الذي يقتضي التوبيخ إلى الاستفهام عن عملهم أيضاً على جهة التوبيخ أي أي شيء كنتم تعملون والمعنى إذ كان لكم عمل أو حجة فهاتوا وليس لهم عمل ولا حجة فيما عملوه إلا الكفر والتكذيب وماذا بجملته يحتمل أن يكون استفهاماً منصوباً بخبر كان وهو تعملون وأن تكون ما هو الإِستفهام وإذا موصولة بمعنى الذي فيكونان مبتدأ وخبرا وكان صلة لذا والعائد محذوف تقديره الاستفهام وذا موصولة بمعنى الذي فيكونان مبتدأ وخبراً وكان صلة لذا والعائد محذوف تقديره أي شىء الذي كنتم تعملونه.﴿ وَوَقَعَ ٱلْقَوْلُ ﴾ أي العذاب الموعود به بسبب ظلمهم وهو التكذيب بآيات الله ولما ذكر أشياء من أحوال يوم القيامة ليرتدع بسماعها من أراد الله تعالى ارتداعه نبههم على ما هو دليل على التوحيد والحشر بما هم يشاهدونه في حالة حياتهم وهو تقليب الليل والنهار من نور إلى ظلمة ومن ظلمة إلى نور وفاعل ذلك واحد وهو الله تعالى * قال الزمخشري: وهو مراعى من حيث المعنى وهكذا النظم المطبوع غير المتكلف لأن معنى مبصراً لتبصروا فيه طريق التقليب في المكاسب " انتهى " الذي يظهر أن هذا من باب ما حذف من أوله ما أثبت نظيره في مقابله وحذف من آخر، ما أثبت في أوله فالتقدير جعلنا الليل مظلماً لتسكنوا فيه والنهار مبصراً لتتصرفوا فيه فالابصار ينشأ عنه التصرف في المصالح ويدل عليه قوله:﴿ وَجَعَلْنَآ آيَةَ ٱلنَّهَارِ مُبْصِرَةً ﴾[الإسراء: ١٢] فالكون علة لجعل الليل مظلماً والتصرف علة لجعل النهار مبصراً وتقدم لنا الكلام على نظير هذين الحذفين مشبعاً في البقرة في قوله:﴿ وَمَثَلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي يَنْعِقُ ﴾[البقرة: ١٧١].


الصفحة التالية
Icon