﴿ يُحْيِـي ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ﴾ يظهر أنه تمثيل لتليين القلوب بعد قسوتها ولتأثير ذكر الله تعالى فيها كما يؤثر الغيث في الأرض فتعود بعد إجدابها مخصبة كذلك تعود القلوب النافرة مقبلة يظهر فيها أثر الطاعات والخشوع. قال الزمخشري: فإِن قلت علام عطف قوله وأقرضوا قلت على معنى الفعل من المصدقين لأن اللام بمعنى الذين واسم الفاعل بمعنى أصدقوا كأنه قيل أن الذين أصدقوا وأقرضوا " انتهى ". واتبع في ذلك أبا على الفارسي ولا يصح أن يكون معطوفاً فأعلى المصدّقين لأن المعطوف على الصلة صلة وقد فصل بينهما بمعطوف وهو قوله والمصدّقات ولا يصح أيضاً أن يكون معطوفاً على صلة أل في المصدّقات لاختلاف الضمائر إذ ضمير المصدّقات مؤنث وضمير وأقرضوا مذكر فيتخرج هذا على حذف الموصول لدلالة ما قبله عليه كأنه قيل والذين أقرضوا فيكون مثل قول الشاعر: فمن يهجو رسول الله منكم   ويمدحه وينصره سواءيريدون ومن يمدحه.﴿ كَمَثَلِ ﴾ في موضع رفع صفة لما تقدم وصورة المثال أن الإِنسان ينشأ في حجر مملكة فما دون ذلك فيشب ويقوى ويكسب المال والولد ويغشاه الناس ثم يأخذ بعد ذلك في انحطاط فينشف ويضعف ويسقم وتصيبه النوائب في ماله وذريته ويموت ويضمحل أمره ويصير ماله لغيره فأمره مثل مطر أصاب أرضاً عن ذلك الغيث نبات معجب أنيق ثم هاج أي يبس واصفر ثم تحطم ثم تفرق بالرياح واضمحل قيل الكفار الزراع من كفر الحب أي ستره في الأرض وخصوا بالذكر لأنهم أهل البصر بالنبات والفلاحة فلا يعجبهم إلا المعجب حقيقة وقيل من الكفر بالله لأنهم من أشد الناس تعظيماً للدنيا وإعجاباً بمحاسنها وحطام بناء مبالغة كعجاب وقرىء مصفاراً ولما ذكر ما يؤول إليه أمر الدنيا من الفناء ذكر ما هو ثابت دائم من أمر الآخرة من العذاب الشديد ومن رضاه الذي هو سبب النعم.﴿ سَابِقُوۤاْ إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ الآية لما ذكر تعالى ما في الآخرة من المغفرة بالمسابقة إليها والمعنى سابقوا إلى سبب مغفرة وهو الإِيمان وعمل الطاعات.﴿ عَرْضُهَا ﴾ أي مساحتها في السعة والعرض خلاف الطول فإِذا وصف العرض بالبسطة عرف أن الطول أبسط وأمد.﴿ أُعِدَّتْ ﴾ يدل على أنها مخلوقة وتكرر ذلك في القرآن.﴿ فَضْلُ ٱللَّهِ ﴾ عطاؤه.﴿ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ ﴾ وهم المؤمنون.﴿ مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ ﴾ أي مصيبة وذكر فعلها وهو جائز التذكير والتأنيث ومن التأنيث ما تسبق من أمة أجلها ولفظة مصيبة تدل على الشر لأن عرفها ذلك وخصها بالذكر لأنها أهم على البشر والمصيبة في الأرض مثل القحط والزلزلة وعاهة الزرع وفي الأنفس الاسقام والموت.﴿ إِلاَّ فِي كِتَٰبٍ ﴾ هو اللوح المحفوظ أي مكتوبة فيه.﴿ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ ﴾ أي نخلقها ولا خلق والضمير في نبرأها الظاهر أنه يعود على المصيبة لأنها هي المحدث عنها وذكر الأرض والأنفس هو على سبيل ذكر محل المصيبة.﴿ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ ﴾ أي سهل وإن كان عسيراً على العباد ثم ذكر تعالى الحكمة في اعلامنا بذلك الذي فعله من تقدير وذلك سبق قضائه به فقال:﴿ لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ ﴾ أي تحزنوا على ما فاتكم لأن العبد إذا علم ذلك سلم وعلم أن ما فاته لم يكن ليصيبه وما أصابه لم يكن ليخطئه فلذلك لا يحزن على فائت لأنه ليس بصدد أن يناله ويظهر أن المراد بقوله لكيلا تحزنوا أن يلحق الحزن الشديد على ما فات من الخير فيحدث عنه السخط وعدم الرضاء بالمقدور.﴿ وَلاَ تَفْرَحُواْ ﴾ الفرح المؤدي إلى البطر المنهي عنه في قوله:﴿ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْفَرِحِينَ ﴾[القصص: ٧٦].
فإِن الحزن ينشأ عنه السخط والفرح قد ينشأ عنه البطر ولذلك ختم بقوله:﴿ وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾ فالفرح بما ناله من حطام الدنيا يلحقه في نفسه الخيلاء والافتخار والتكبر على الناس فمثل هذا هو المنهي عنه وأما الحزن على ما فات من طاعة الله تعالى والفرح بنعم الله والشكر عليه والتواضع فهو مندوب إليه.﴿ ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ ﴾ بدل من كل مختال أو على إضمارهم أو إضمار أذم.﴿ وَمَن يَتَوَلَّ ﴾ أي عن ما أمر إلٰهه به.﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِٱلْبَيِّنَاتِ ﴾ أي بالحجج والمعجزات.﴿ مَعَهُمُ ٱلْكِتَابَ ﴾ إسم جنس ومعهم حال مقدرة أي وأنزلنا الكتاب صائراً معهم.﴿ مَن يَنصُرُهُ ﴾ قال ابن عباس: يترَتب على معنى الآية بأن الله تعالى أخبر بأنه أرسل رسلاً وأنزل كتباً وعدلاً مشروعاً وسلاحاً يحارب به من عاند ولم يهتد بهدي الله تعالى فلم يبق عذر وفي الآية على هذا التأويل حض على القتال.﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ ﴾ الآية لما ذكر تعالى إرسال الرسل جملة أفرد منهم في هذه الآية نوحاً وإبراهيم تشريفاً لهما بالذكر والظاهر أن الضمير في منهم عائد على الذرية.﴿ ثُمَّ قَفَّيْنَا ﴾ أي اتبعنا وجعلناهم يقفون من تقدّم.﴿ عَلَىٰ آثَارِهِم ﴾ أي آثار الذرية.﴿ بِرُسُلِنَا ﴾ وهم الذين جاؤوا بعد الذرية.﴿ وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ﴾ ذكره تشريفاً له ولانتشار أمته ونسبه لأمهِ على العادة في الإِخبار عنه.﴿ وَجَعَلْنَا ﴾ يحتمل أن يكون المعنى وخلقنا ويحتمل أن يكون بمعنى صيرنا فيكون.﴿ فِي قُلُوبِ ﴾ في موضع المفعول الثاني لجعلنا.﴿ وَرَهْبَانِيَّةً ﴾ معطوف على ما قبله فهي داخلة في الجعل.﴿ ٱبتَدَعُوهَا ﴾ جملة في موضع الصفة لرهبانية وخصت الرهبانية بالابتداع لأن الرأفة والرحمة في القلب لا تكسب للإِنسان فيها بخلاف الرهبانية فإِنها أفعال بدن مع شىء في القلب ففيها موضع للتكسب وجعل أبو علي الفارسي ورهبانية منقطعة من العطف ما قبلها من رأفة ورحمة وانتصب عنده ورهبانية على إضمار فعل يفسره ما بعده فهو من باب الاشتغال أي وابتدعوا رهبانية ابتدعوها وتبعه الزمخشري فقال: وانتصابها بفعل مضمر يفسره الظاهر وتقديره وابتدعوا رهبانية ابتدعوها يعني وأحدثوها من عند أنفسهم " انتهى ". وهذا إعراب المعتزلة وكان أبو علي الفارسي معتزلياً وهم يقولون ما كان مخلوقاً لله تعالى لا يكون مخلوقاً للعبد فالرأفة والرحمة من خلق الله تعالى والرهبانية من ابتداع الإِنسان فهي مخلوقة له وهذا الاعراب الذي لهم ليس بجيد من جهة صناعة العربية لأن مثل هذا هو مما لا يجوز فيه الرفع بالابتداء ولا يجوز الابتداء هنا بقوله: ﴿ وَرَهْبَانِيَّةً ﴾ لأنها نكرة لا مسوغ لها من المسوغات للابتداء بالنكرة والظاهران.﴿ إِلاَّ ٱبْتِغَآءَ رِضْوَانِ ٱللَّهِ ﴾ استثناء متصل ما هو مفعول من أجله وصار المعنى أنه تعالى كتبها عليهم ابتغاء مرضاته والضمير في.﴿ رَعَوْهَا ﴾ عائد على ما عاد عليه في ابتدعوها وهو الضمير الذي اتبعوه أي لم يرعوها كما يجب على الناذر رعاية نذره لأنه عهد مع الله تعالى لا يحل نكثه.﴿ فَآتَيْنَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ وهم أهل الرأفة والرحمة الذين اتبعوا عيسى عليه السلام.﴿ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ وهم الذين لا يحافظون على نذورهم.﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ﴾ نداء لمن آمن من أمة محمد صلى الله عليه وسلم فمعنى آمنوا: دوموا، وأثبتوا.﴿ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ ﴾ أي نصيبين في إيمانه بنبيه وإيمانه بمحمد صلى الله عليه وسلم كما قال﴿ أُوْلَـٰئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ ﴾[القصص: ٥٤].
﴿ لِّئَلاَّ يَعْلَمَ ﴾ لا زائدة وان واجبة الذكر وإن كانت ناصبة للفعل كراهة اجتماع لام الجر ولا الزائدة وتتعلق اللام بيؤتكم أو على إضمار فعل تقديره فعلنا ذلك أي إيتاء الكفلين وجعل النور والغفران والمعنى ان هذا كله من فضل الله تعالى وان المؤتون ذلك لا يقدرون على ذلك بل ذلك كله من فضل الله تعالى وبيد الله كناية عن القدرة عن ما يؤتيه من الفضل لمن يشاء.


الصفحة التالية
Icon