أُنزل أو أولُه مِن حيث لا يجوزُ غيرُ ما قلتَه فقال: نعم، ولا نَقلت الأمّة عنه
أنها عَرفَت من دينه أنّه لا يقول ذلك على ظاهرِ الحال وغالبِ الظن والرأي.
إذا كان ذلك كذلك بأن صحةُ ما قلناهُ، وبطلَ ما حاولوا به الطعنَ على نقل
القرآنِ وجوازُ تغييره وتبديله.
فأما المكّيّ والمدنيّ من القرآن فلا شبهةَ على عاقلٍ في حفظ الصحابةِ
والجمهورِ منهم إذا كانت حالُهم وشأنهم في حفظ القرآن وإعظامه وقدره من
نفوسهم ما وصفناه لِما نزل منه بمكةَ ثم بالمدينة، والإحاطة بذلك والأسباب
والأحوالِ التي نزل فيها ولأجلها، كما أنّه لا بُدّ في العادةِ من معرفةِ معظَمِ
العالم والشاعر والخطيب وأهلِ الحرصِ على حفظِ كلامه ومعرفةِ كتبه
ومصنفاته من أن يعرفوا ما نظمه وصنّفه أولا وآخراَ، وحالُ القرآنِ في ذلك
أمثل، والحرصُ عليه أشد، غيرَ أنه لم يكن من النبي عليه السلامُ في ذلك
قولٌ ولا نصّ، ولا قال أحد ولا روى أنّه جمعه، أو فرقةٌ عظيمةٌ منهم تقوم
بهم الحجّة وقال: اعلموا أن قدَر ما أُنزِلَ عليّ من القرآن بمكةَ هو كذا
وكذا، وأن ما أُنزِلَ بالمدينة كذا وكذا، وفصّله لهم وألزمَهم معرفتَه، ولو
كان ذلك منه لظهرَ وانتشَر، وعُرفت الحالُ فيه.
وإنما عدل - ﷺ - عن ذلك لأنّه مما لم يُؤمَر فيه، ولم يجعلِ الله تعالى علمَ ذلك من فرائضِ الأمّة، وإنْ وجبَ في بعضِه على أهلِ العلم مع معرفة تاريخ الناسخِ والمنسوخ، ليُعرَفَ الحكمُ الذي ضِمنها، وقد يُعرَفُ
ذلك بغير نصّ الرسول بعينِه وقوله هذا هو الأولُ والمكّي وهذا هو الآخرُ
المدنيُ.
وكذلك الصحابةُ لمّا لم يعتقدوا أنّ مِن فرائضِ التابعين ومَن بعدَهم
معرفة تفصيل جميعِ المكّيّ والمدنيّ وأنّه ممّا يسعُ الجهلُ به، لم تتوفّر