ولمّا لم يُسمَع هذه الدّعاوي وبطلت وتكافأت عُلِمَ أنّه لو كان منها حقّ
قد بُيّنَ على حَسَبِ ما ادُّعيَ لكان ظاهراً مشهورا كظهور سائرِ آياتِ القرآنِ
وسُوَرِه، ووجبَ القطعُ على أنّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ليست بقرآنٍ مُنزَلٍ
في غير النملِ، ولا فاصلٍ بين السور، ولا من جملتها أيضاً، فلهذا لم يجب
عندَنا علمُ الأمة بأنّها قرآنٌ وأنّها من سورة الحمد على ما طالَبَنا به القادحون
في نقلِ القرآنِ وصحّته، لأنّه إنما يجبُ تواترُ النقلِ وحصولُ الاتفاق على ما
بيّنه رسولُ الله - ﷺ - وأُنزِلَ عليه من القرآن دونَ ما لم يبيّنْه ولم ينزل عليه.
وهذا الذي قالوه أيضاً بأن يدلّ على صحّة ما قلناه في وجوبٍ ظهورِ
نقل القرآن والعلمِ به أولى، وذلك أنّه إذا اختلفت الأمّة في إثباتِ ما يَظُنُ
قومٌ أنّه قرآنٌ لأجلِ افتتاح الرسولِ به وإثبات الأمّة له في أوائل السور.
فقطعوا لذلك على أنّه قرآنٌ ودانوا به وتوفّرت هِمَمُهم ودَواعِيهم على حفظِه
والإحاطةِ به وبلغَ به قومٌ إلى أنّه قرآنٌ منزَلٌ: وجبَ أن يكونَ حفظُهم وتوفّر
هِمَمُهم ودَواعِيهم على نقلِ ما بيّنه رسولُ الله - ﷺ - من القرآنِ أَولى وأحرى، وأن يكونَ ذلك فيهم أظهرَ وهُم به أعرفَ، فكلُّ هذا يدل على وجوبِ حفظِ الأمّة لما نصّ رسولُ الله - ﷺ - على أنّه قرآنُ، وعلى أنّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ليست من جُملةِ القرآنِ في غيرِ المواضع التي اتفقوا عليها، وعلى أنّ الرسولَ - ﷺ - بيّنَ كونَها قرآناً فيه وقطعَ العذر، وهذا أيضاً أحدُ الأدلّة على أنّه لم يكن من النبيّ - ﷺ - بيان لكون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قرآناً منزلا وفاصلاً بين السّور ولا من جُملتها
ولا من جُملة الحمد، لأنّه لو كانَ منه بيانٌ لذلك لجرى مجرى بيانه لكوبها
قرآناً في سورة النمل بقوله: (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (٣٠).


الصفحة التالية
Icon