ذلك واستدراكَ عَجْزٍ وتفريطٍ وتركَ حُرَمٍ كان منهم: فهو من الغباءِ والجهل
بحيثُ لا يُنتفَعُ بكلامه.
ثم نقول: ليس لأحدٍ أن يقول: لِمَ لم يُؤلفوا سُورَ القرآنِ على تاريخِ
نزوله ليكونوا بذلك متوافقين في التقديم والتأخير أوقاتَ نزولِه، وليس هو
بقوله هذا بأولى ممن قال: بل الواجبُ هو ما فعلوه من تصنيفِ السور وضم
كل شيءٍ إلى مثلِها وشكلِها، لا سيما إذا علموا أن اللهَ سبحانه ورسولَه عليه
السلام قدَّم في السورة الواحدةِ إثباتَ المنسوخ على الناسخ، وأنّه كان مُنزَل
منه المدني فيُؤمروا بإثباته في السور المكية، وأن رسولَ الله - ﷺ - لم يُراعِ في إثباتِ آيات السُّوَر وتاريخِ نزولِها، فكذلك لا يجبُ عليهم هم أن يُراعُوا في تأليفِ تاريخِ نزولها، ولجازَ أيضاً لأحدٍ أن يقول: ما الحق إلا فيما فعلوا من تقديمِ طِوالِ السور على القِصار، لأنها أعظمُ قدراً في النفوس وأخرَقُ للعادة، وأعظمُ في الإعجاز، وأجمعُ للفوائد، وأكثرُ اشتمالاً على المواعظِ والأقاصِيصِ وضربِ الأمثال وتفصيلِ الحلال والحرام، وكان ذلك مِن فعلهم أولى.
وقد يسوغُ أيضاً لآخرَ أن يقول: بل كان الواجبُ عليهم تقديمُ قِصارِ
السور لكونها أقربَ مأخذاً وأسهلَ وأخف على المتعلِّم من التشاغُل
بطِوالها، وكل هذا تخليط وتعنَّتٌ للصحابة، ومحاولة للقدح في آرائهم بما
يعودُ بالدلالة على غَباوة المعترِضِ وجهلِه، والذي يدلُّ على أنه لا يجوزُ
لهم تأليفُ سُوَر القرآنِ على تاريخ نزوله أنهم لو فعلوا ذلك لوجبَ أن
يجعلوا بعضَ آيات السور في سورة أخرى، وأن ينقضُوا ما وقفوا عليه من
سِياقِ ترتيبِ آياتِ السور ونظامها، لأنّه قد صحَّ وثبتَ أنّ الآيات ِ كانت تَنزِلُ بالمدينة فيؤمروا بإثباتها في السور المكية.