ومما يدلُّ على ذلك ويؤكِّدُه ما رواه الفَضْلُ بن دُكَينٍ عن الوليدِ بن
جُمَيعٍ أنّ خالدَ بن الوليد أمَّ الناسَ بالحِيرة فقرأ مِن سُوَرٍ شتّى، ثم التفت
حينَ انصرفَ فقال: "شغلني الجهادُ عن تعلُّم القرآن ".
وفي روايةٍ أخرى أنّه قال: "إنّي بطّأتُ عن الإسلام وشغلني الجهادُ عن تعلُّم القرآن "، ولو كان للناس تقديمُ المؤخَّر من الآي وتأخيرُ المقدَّم، وخلطُ آياتِ السور بآياتِ سُوَرٍ غيرِها، ولم يكن عليهم في ذلك ترتيبٌ وحدٌّ محدودٌ: لم يحتج خالدٌ إلى اعتذار، ولم يقل: "شغلني الجهادُ عن حفظ القرآن "، لأنّ القرآنَ لا يجبُ حفظُه عندَ الخصم إلا على ما قرأه خالدٌ وأورده، فهذه أيضاً روايةٌ تنبىءُ عن وجوبِ ترتيبِ آياتِ السُّورِ وتلاوتها على سياقِها، اللهم إلا أن يَعرِضَ عارضٌ مثلُ الذي عرضَ لخالدٍ من النسيان والأمور الصادَّة عن ذلك.
فإن قال قائلٌ: أفليسَ قد رُوِيَ عن عبد الله بن مسعودٍ أنّه قال: "نَزَلَت
على رسولِ الله - ﷺ - سورةُ المرسَلات ونحنُ في غار فأقرأنيها، وأنا أقرؤها قريباً مما أقرأني، فلا أدري أخَتَمَها بقوله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (٤٨).
أو بقوله: (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (٥٠).