وقد يُحتملُ أيضاً أن يكونَ إنما تركَ كتابةَ الحمدِ في مصحفه لأجل أنه
كان المستحب المندوبَ إليه عنده أو من سُنَنِه هو وعادته أن لا يقرأ شيئا من
القرآن إلا قرأ قبله سورة الحمد، فإذا قطعَ القراءة وأخذ في عملٍ غيرها ثم
أرادَ العَودَ إليها ابتدأ أيضاً بالحمد من حيثُ قَطَعَ، ثم كذلك أبداً كُلّما قطع
وابتدأ، ورأى مع ذلك أن المستحبَّ في كتابةِ القرآن من هذا مثلُ المستحَب
منه في تلاوته، ولم يُمكِنه التبتلُ لكتابة مصحفه من أوله إلى آخره دفعةً
واحدةً من غير قطعه وتشاغُلٍ بعملٍ غيره، وأن يستكتب له كَتاباً يكتبُهُ له على هذه السبيل، وهو مُستسلِمٌ يحتاجُ إلى إقامة صلاته وأكل ما يُقيمُ رمقه وغير ذلك مما تَمس الحاجةُ إليه ويقطعُه الاشتغالُ به عن كتابتِه للمصحَف، فرأى عند ذلك أنّه يجبُ أن يكتب الحمد في كلّ موضعٍ قُطِعَ عند الكتابة ثم يصلُها بما بعد الذي انتهى إليه، فيحتاجُ أن يكتُبها في مواضع كثيرة من المصحف، وفي ذلك نقضٌ لتأليف المصحف وإفسادٌ له، فعدل لأجل ذلك عن إثبات الحمدِ جُملةً، ورُوِيَ عن إبراهيم النخعيّ أنّ عبد الله بن مسعود كان لا يكتبُ فاتحة الكتاب، ويقولُ له: "لو كتبتُها لكتبتُها في أوّل كلّ شيء"، يعني بذلك أنه كان يكتبُها عند كل شيءٍ ابتدأ به بعد قطع ما قبله على ما قلناه من قبلُ، وأن يكتبَه في أول كل جزءٍ إذ قَسَّمَ المصحف وجعله أجزاءً مفرداً، وذلك نقضٌ لتأليف المصحف، فهذا إن صحَّ عنه يدلُّ على أن الأمرَ في ذلك كان عندَه على ما تأوَّلناه.
وفي الجُملة فإنّنا قد علمنا أن عبدَ الله بن مسعودٍ لم يكتب الحمد في
مصحفِه، وجاءت بذلك الأخبارُ عنه كمجيئها بأنّه لم يكتب المعوذتين في