بأسرها حتى لم يذكروا منها إلا كلمة أو كلمتين، وهم قد حفظوا عن
الرسول سننه وآدابه وأخلاقه وطرائقَه ومزاحَه وكيف السنة في الأكل والشرب، وفي التغوُّط والبول إلى غير ذلك، حتى أحاطوا علما به ودونوه وشهروه وتداولوا به، ثم يذهبون مع ذلك عن حفظ سورة بأسرها إلا كلمة واحدة منها أو اثنتين، وعن حفظ الأحزاب إلا أقلها، وهذا جهل وغباء ممن أجازه على من هو دون الصحابة في التدين بحفظ القرآن وجودة القرائح والأفهام وسهولة الحفظ وانطلاق الألسن وانشراح الصدور لحفظ ما يأمرهم الرسول بحفظه ويحثهم ويحضهم على تعلمه وتعظيمه، ويعرفهم عظيمَ الأجر على تلاوته ويحذِّرهم أليمَ العقاب في نسيانه وذهابه عن القلوب بعد حفظه.
فإذا كان ذلك كذلك عُلم ببعض ما ذكرناه سقوطُ هذه الروايات وتكذبها.
وأنه لا أصلَ لشيءٍ منها، ولما يجري مجراها من الحروف الزائدة المرويّة
عن جماعة من الصحابة على ما سنذكره مفصّلاً فيما بعد إن شاء الله.
ثم يقال لهم: إنَّ هذه الرواية لو صحَّت عن أبيّ لم توجب نقصان القرآن
ولا سقوط شيءٍ منه عليه ولا على سائر الصحابة مما يلزمهم حفظُه وتلاوتُه
ويلحقُهم التقصيرُ والتفريطُ بتضييعه، وذلك أنّه قولٌ محتمل لأن يكون ما
كانوا يقرؤونَه في سورة الأحزاب قد نُسخت تلاوتُه وزالَ عنهم فرضُ حفظه، فلذلك لم يثبتوه ولم يقرؤوه، وأبيٌّ لم يقل مع قوله: "إنّا كنّا نقرأ سورةَ
الأحزاب، وأنها - كانت توازي سورة البقرة"، أنّه ضاع أكثرُها ومعظمُها، ولا أنّهم وأنَّا جميعاً ذهبنا عن حفظها وفرّطنا فيما وجب علينا من ذلك، وإنّما قال: "كنّا نقرؤها، وأنها كانت توازي سورةَ البقرة وأنه كان فيها آية الرّجم "، فما في هذا ما يوجب أنّ فرضَ تلاوتِها وحفظِ جميعِها باق، وأنّ القومَ فرّطوا في حفظِها وضيعوا، مع كونه قولاً محتملاً للنسخ لتلاوة أكثرها،