وقد عرفوا تحدِّي النبي - ﷺ - للعرب أن تأتي بمثله مجتمعين ومتفرقين، وأنه أعجزهم وأفحمهم، وكان شجىّ في حلوقهم، وأنّهم تَشَتَّتَتْ آراؤهم واختلفت أقوالهم لمّا تُحُدُّوا أن يأتوا بمثله، ومنهم من كتبه مصحفاَ ودوّنه، كأبي وعبد الله بن مسعود وعليّ بن أبي طالب على ما ترويه الشيعة وغيرهم:
لم يُجز على الصدر الأول ومن بعدهم - مع أنّ حالَهم ما وصفناه، وحالَ
القرآن عندهم ما نزلناه ورتّبناه - أن يهملوا أمرَ القرآن ويتشاغلوا عن حفظه، ويقصّروا عن واجبه، أو يغيروا شيئاَ من نظمه، أو يضعوا مكان كلّ شيء منه غيره، وأن يتساهلوا في ذلك وهم قد ضُيِّق عليهم هذا الباب، وأخذوا بتلاوته وإقرائه على ما لُقنوه وتلقّوه، وشُدد عليهم الأمر في هذا الباب.
فمَن ظن أنه لم يكن القرآن يوم أَكل الداجنُ بعضَه إن صح هذا الخبر
عند أحد من الأمة، ولا في صدره، ولا عند أكثرهم عدداَ، حتى ذهب
وسقط منه شيءٌ كثير عند كثير، فليس هو عندنا بمحل من يُكلَّمُ، ولا يُنتفَع
بكلام مثله، لأنه بمثابة من لا يعرف الضرورات، وما عليه الفِطَرُ والعاداتُ.
وهو إذا كان ذلك أبعد عن معرفة ما يُحتاج فيه إلى لطيف بحثِ واستخراجِ.
وكيف لا يكون حال الأمة في أمر حفظ القرآن والقيام به وبتحصينه وحياطته
والمحافظة على درسه وتأمُّله وتعلّمه وتعليمه، التقديم له على كل مهم ماسّ
من أمر دينه، مع الذي وصفناه مما ورد في نفس التنزيل المحفوظ من تعظيم
شأن القرآن، والأمر بتدبره والرجوع إليه، والعمل عليه، مع كثرة ما سمعوه من الرسول - ﷺ - في الحض على تعلمه وتعليمه والأمر بالتفقه به، والحث على حراسته، والإكثار من تلاوته، وضمانه الثواب الجزيل على قراءة كل حرفِ منه، وتفضيل أهل القرآن على سائر الناس، والتعظيم لشأنهم والإخبار عن رفيع درجتهم عند الله، وما أعده لهم، إلى غير ذلك مما قد