وإن هم قالوا: إنما وجبَ أن يكونَ تأليفُ المنسوخِ قبلَ الناسخ.
والمكيُّ قبلَ المدني، لأنه لو لم يُفعل ذلكَ لظنَّ سامعُ المدنى قبلَ المكي.
وسامعُ الناسخِ قبلَ المنسوخِ والمشاهِدُ لهُما مكتوبَينِ كذلكَ أنهما كذلكَ رتبا
في التنزيل، وأن اعتقادَ هذا جهل، واللهُ تعالى لا يفعلُ ما يدعوا إلى فعلِ
الجهل، ويكون شبهةَ في جوازِ اعتقاده.
يقالُ لهم: ولم قُلتم إن سامعَه مفرَداَ كذلك ورائيه مكتوباَ كذلكَ يجبُ
أن يعتقد أنّه كذلكَ إنزالُه قبلَ أن يَسأل عن وقتِ التنزيل، ويعرفَ التاريخَ.
بل ما أنكرتُم أن يكونَ الواجبُ عليهِ في الجملةِ إذا عرَف أن إحدى الآيتينِ
منسوخة والأخرى ناسخةٌ أن يعلَم أن الناسخَ نزلَ بعدَ المنسوخِ وأن ترتيب
تلاوته بعده، لأن ذلكَ مما لا شبهة فيه على عاقل، ولن يجوزَ في المكيِّ
والمدنيِّ إذا سُمع المدنيُّ قبل المكى ولم يُعرف أيُّهما المكي من المدني أن
هذا أنزِل أولا بدلَ الآخِر، وأن يكونَ الآخرُ قُدِّم عليه، لأنّ ذلكَ غيرُ مستحيل في العقلِ وإِن رتِّب في التِّلاَوةِ على ما هو به، فلمَ قُلتم إن الواجبَ التسرعُ إلى اعتقادِ تنزيِله على حسبِ تلاوته، وتأليفه.
فإن قالوا: لسنا نقولُ إن ذلكَ واجب على العُقلاء إذا سمعوه، ولكنه
مما يجوزُ أن يُظهر ويتوهَّم فيجبُ نفيُ هذا الظن.
يقالُ لهم: ولِمَ إذا عَلِم تعالى جوازَ توهم هذا ممن قلَّ ضبطُه وتحصيلُه
أن لا يؤلفه ويجمعه كذلكَ إذا علمَ أنّ مصلحةَ عبادِه متعلقة بنظمهِ كذلك.
وما أنكرتُم من أنه لا يجوزُ ما وصفتُم إنزالُ شيءِ من المحتمِلِ المتشابِه الذي
لا يَعلم تأويلهُ إلا اللهُ والراسخونَ في العلم، لأنّه قد يظُن ظانٌ أن المراد به
غيرُ ما قصدَهُ الله وأرادَه، فيجهلُ بذلكَ ويعتقدُ فيه غيرَ معناه، وقد قال اللهُ
تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ).


الصفحة التالية
Icon